المحافظون الجدد
بداية ونهاية
أتعرض باستمرار لهجوم من المحافظين الجدد وهذا أمر طبيعي ومفهوم. آخر حلقة في الهجوم كانت بمناسبة مقال كتبته منتقداً تأييد "المحافظين الجدد المصريين" للهجوم الإسرائيلي على قافلة الحرية. وفجأة وجدت سيل من الشتائم والسباب واتهامات بأنني أفتري على "فكر" المحافظين الجدد الرفيع جداً. ورغم إنني لم أجد أي منطق فيما كتبوه ضدي أو أفكار يمكن الرد عليها، إلا إن بعض القراء تساءلوا عن حقيقة وجود "محافظين جدد مصريين"، وآخرين اكتشفت أن لديهم خلط يتعمد المحافظون الجدد إحداثه – بين الفكر الليبرالي وفكر المحافظين الجدد – وهما على طرفي نقيض، فوجب التوضيح.
لم أر أي نقاش مطروح من جانب مروجي فكر المحافظين الجدد ومستوظفيهم - لم أر ردوداً أو حتى أسئلة أو استفسارات - كل ما رأيته هو إنكار واتهامات من عينة "الليبراليين المصريين هم أعداء السامية ووحشين أوي" وبإنني "قومجي وإسلاموي" وإن كلامي هو من باب "الشرشحة السياسية" و"أكاذيب أحمد سعيد" ثم نصيحة غالية بأن أعلن عن "توجهاتي الإسلاموية القومية" وأن أتوقف عن التخفي وراء الليبرالية لأنني "لا أجرؤ على أن أعلن ما قلته باللغة الانجليزية" رغم أن لينكات مقالاتي 1، 2، 3 التي استشهدت بها كانت بالانجليزية ومعظمها منشور لي في موقع أمريكي Huffington Post أو موقعي الخاص
وتتحدث مقالاتي بالانجليزية بوضوح عن المحافظين الجدد وسعيهم لفرض معتقداتهم بالقوة المسلحة وكذلك عن جهاد المحافظين الجدد لتطهير المنطقة العربية من الليبرالية حتى يستطيعوا القول بأن – الشرق الأوسط لا يوجد به غير التيارات المتطرفة – بما يعطيهم المبرر للحرب والعداء والتصادم – وهذا هو أسلوب المحافظين الجدد وقنواتهم المتخصصة في بث الخوف وسط المواطنين من الآخر وتعميق كراهية الآخر لتسهيل وتيسير شن حروبهم الاستباقية التي تهدف لواحد من اثنين – إما إخضاع هذا الآخر وتغيير فكره وطريقته في الحياة لتصبح تابعة لأمريكا – أو إبادته باعتباره يمثل خطراً على القيم الليبرالية والديمقراطية – بينما أول مبادئ الليبرالية هي القبول بالاختلاف والقبول بالآخر – وهذا طبعاً ينسى المحافظون الجدد أن يذكروه للجماهير
ومع هذا - سأشرح لقرائي من الليبراليين وليس من المحافظين الجدد - لأنه لا فائدة ترجا من وراء مجادلة الفاشيين - الخطر الذي تمثله سياسات المحافظين الجدد
أولاً : يبدو أن هناك خلط في ذهن البعض بين الليبراليين الجدد والمحافظين الجدد. وأود أن أوضح أنه ليست هناك أي علاقة غير علاقة التضاد بين المحافظين الجدد والليبراليين الجدد - الليبراليون الجدد يؤمنون بتقليص دور الدولة لأقصى حد في الاقتصاد - بينما المحافظون الجدد أصولهم ماركسية وتروتسكية ومن أنصار دولة الرفاة - بعكس الليبراليين الجدد - وهذا أول خلط
ثانياً - قد تكون هناك كتب من محافظين جدد أكثر اعتدالاً من غيرها - لكن حتى الكتب التي تدافع عن سياسات المحافظين الجدد العدوانية في عهد بوش - هي في النهاية تدافع عن بوش أمام الرأي العام الأمريكي - باعتبار أن هدف بوش الابن "النبيل" كان هو فرض السيادة الأمريكية على العالم بشتى الطرق بما في ذلك الحرب الاستباقية
لكن ليست الكتب ولا الأيدلوجيات هي ما نحاسب عليه - لأنه لا محاسبة على فكر - بل المحاسبة تكون على الممارسات والأفعال
خرق القانون الدولي
نأتي أولاً للحرب على العراق - بدعوى أنها تملك أسلحة دمار شامل ومتصلة بالقاعدة وتحتضن الإرهاب - وكلها أشياء ثبت فيما بعد عدم صحتها - بل وثبت تورط الإدارة الأمريكية - بفضل المحافظين الجدد - في تقديم أدلة مضللة لاقناع الرأي العام بالحرب التي فشلت في تحقيق أي هدف لها سوى قتل وتشريد مئات الآلاف من المدنيين - والعسكريين - ومنهم أمريكيون ماتوا في سبيل كذبة كبيرة - وهي جرائم سيحاسب عليها من أمروا بها - نحن اليوم ننتفض لأن شاباً واحداً من الاسكندرية قتل ظلماً على أيدي قوات الأمن - فما بالك بمئات الآلاف ؟
ولعل هذا وأمثاله ما جعل الولايات المتحدة مثلاً ترفض التوقيع على اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية
ICC
حتى لا تتم محاسبة مسئولين وجنود أمريكيين بوصفهم مجرمي حرب - بل قام الكونجرس الأمريكي بتقديم "قانون لاهاي" والذي يسمح للإدارة بالهجوم المسلح على "لاهاي بهولندا" لاستخلاص أي أمريكي يكون محبوساً على ذمة المحاكمة في قضايا وجرائم ضد الإنسانية - وهي بجاحة منقطعة النظير أن ترى دولة أنها فوق القانون الدولي وأنها فوق المساءلة – رغم أن مبادئ الليبرالية تنص على المساواة بين بني البشر وسيادة القانون والمسئولية والمساءلة - كما أنه أيضاً نفاق ممجوج أن نسمع مطالبات وحملات المحافظين الجدد المصريين بتسليم البشير مثلاً - وهو يستحق المحاكمة في رأيي - للمحكمة الجنائية الدولية بينما أمريكا غير موقعة وغير ملتزمة بل وتنوي الهجوم على المحكمة وتعطيل عملها إن فكرت في محاسبة الأمريكيين المتهمين بجرائم حرب
خروقات حقوق الإنسان
ثم نأتي للاحتجاز القسري والتعذيب وخروقات حقوق الإنسان – مثلاً معتقل جوانتانامو – أقيم خصيصاً خارج الولايات المتحدة ليكون خارج سلطة القضاء وبالتالي تتمكن إدارة بوش من احتجاز أبرياء بصورة غير قانونية وبدون مبرر أو سند قانوني، وبدأت الإدارة الأمريكية في اختراق الحريات المدنية وخصوصية المواطنين الأمريكيين بحجة حمايتهم من الإرهاب – ثم اتضح وجود عمليات تعذيب منظمة في جوانتانامو وأيضاً في دول في الشرق الأوسط لصالح أمريكا – راعية الليبرالية وحقوق الإنسان طبعاً – إلى أن أتى أوباما وأوقف مساخر المحافظين الجدد وخروقاتهم التي كانت قد اصابت الضمير الأمريكي بجراح ثخينة
ومن أسوأ الأشياء هو وجود حالة من الهياج والهوس العصبي في الإعلام والملعب السياسي وتغذية الكراهية – كراهية الآخر – غير القويم والذي لا يستحق الدفاع أو التمتع بأي حقوق لأنه خطر علينا وعدو لنا وبالتالي هو ليس إنسان بالضبط – تماماً تشبه حالة الاستعداء والاستنفار الموجودة في قنوات الجعير المتأسلمة والتي تبشر بحرب نهاية الزمان – وهذا ما يجعلني أقول – أن الأسلوب واحد والمنطق واحد بين الفاشية الدينية وفاشية المحافظين الجدد
منطق بوش كان – إما أنت معنا أو أنت مع العدو – مع الإرهاب – وهذا شيء خطير لأنه يفترض أن أي مخالف في الرأي هو عدو – بما يضرب مبدأ ليبرالي هام وهو التسامح والتعايش السلمي – ونجد الزملاء الخمسة أو السبعة – المحافظين الجدد المصريين – ولا أعلم ما يعني هذا في الحقيقة – يروجون للمبدأ الخطير وهو – لا حرية لأعداء الحرية – هو تماماً يشبه مبدأ قتل المرتد عند المتطرفين المتأسلمين – بمنطق معوج قوامه أن من يخالفنا فلا حقوق له
ونجد هذا بوضوح عند مناقشة قضايا مفصلية - مثل موضوع هجوم إسرائيل على قافلة الحرية في المياه الدولية في مايو 2010 نجد أن المحافظين الجدد يؤيدون موقف إسرائيل في العدوان على المدنيين في المياه الدولية، لمجرد أن هؤلاء المدنيين يختلفون معهم في الفكر، فحقوق الإنسان عند المحافظين الجدد ليست عامة أو عالمية - بل أنها فقط تطبق انتقائياً ليستمتع بها من يختارونه ويحرم منها "أعداء الحرية (المقلية!)"، وهذه هي أسس الفكر الفاشيستي - وعكس الفكر الليبرالي ونقيضه - لأن الفكر الليبرالي يؤمن بأن حقوق الإنسان لصيقة بالإنسان وعالمية في طبيعتها
Universality of Human Rights
الحرية تقلي
منطق بوش – أدى لحملة عداء شديدة داخل أمريكا ضد فرنسا – وهي دولة غربية وحليف طبيعي لأمريكا – عندما رفضت فرنسا أن يصدر قرار مجلس الأمن ليضع غطاءاً من الشرعية الدولية لاحتلال العراق – فقامت حملات مقاطعة النبائذ الفرنسية وحملة تغيير اسم البطاطس المقلية من مقليات فرنسية
French Fries to Freedom Fries !
لتصبح اسمها الحرية تقلي أو مقليات الحرية (!) – وهو دليل على حالة غسيل مخ الشعب الذي لا يعلم شيئاً عن الحقائق ومغيب في موجات الهوس الإعلامي – وهي اشياء تميز النظم الفاشية – التي تعتمد على إخضاع الشعب من خلال الإعلام الموجه وغسيل المخ وخلق حالة من الفزع والخوف والرعب لدى المواطنين من عدو مجهول أو الإرهاب أو الجمرة الخبيثة وغيرها - والمبالغة في تضخيم قدرات هذا العدو – للحصول على تفويض شعبوي بإبادته من على وجه الأرض
استخدام الإرهاب سياسياً
أثناء الانتخابات الأمريكية في 2008 – أعلن "تشارلي بلاك" – مساعد مدير الحملة الانتخابية لماكين - أعلن "أن حدوث هجمة إرهابية على أمريكا الآن ستساعد ماكين انتخابياً." بما يكشف أن اليمين يبتهج لوجود الأعداء رغم ما يسببونه في صراعات ومعاناة ومقتل المدنيين من مواطنيهم، ولا ننسى أن بن لادن هو في الأصل صنيعة أمريكية منذ الثمانينات - ولا ننسى أيضاً الدعم الأمريكي للنظم والجماعات والمنظمات الإسلامية المتطرفة دينياً في المنطقة وحتى نهاية الثمانينات بل وما بعدها. ومن المؤكد أن التطرف والعداء لدى "العدو المختلق" سيساعد على نجاح وشعبية المتطرف الذي صنعه على الطرف الآخر. وهذا لا يعني أن ماكين كان من المحافظين الجدد – لكنه من وجهة نظر المحافظين الجدد أسهل في السيطرة عليه واختطاف سياساته – تماماً مثل بوش الابن – الذي نجح المحافظون الجدد في اختطاف إدارته وإرعابه هو شخصياً وهزه داخلياً ليستسلم لبعبع العدو الشرير أبو رجل مسلوخة فيجري مذعوراً ليوقع لهم على ما يريدون – وهو الحرب والتصادم ودوران الآلة العسكرية باستمرار.
الفاشية وتديين السياسة
قيام بوش باستخدام تعابير دينية في إطار سياسي – مثل الخير (أمريكا) والشر ومحور الشر (أعداء أمريكا) و"الحملات الصليبية" ضد هؤلاء الأعداء لأنهم "يكرهون حريتنا (المقلية!)"، وأن "الرب يرشد قرارته" وغيرها من ترهات، كل هذه التعبيرات تكشف عن حالة عقلية لشخص مذعور مهووس يظن أن لديه الإلهام الإلهي والحقيقة المطلقة Self-righteous فكان فريسة سهلة الانقياد فحاصره المحافظون الجدد في فكرة واحدة - لكن هذه التعبيرات وهو الأخطر – تكشف عن الفاشية – أن نضفي تعبيرات دينية "مطلقة" مثل الخير والشر على أمور ومواقف سياسية "نسبية" مثل سياسات أمريكا في الشرق الأوسط – فهو خلط لا يفوت على أي شخص يفهم في السياسة – لأنه يعني أن الشخص السياسي قد أصبح يؤمن بأن ما يقوله هو كلمة الرب - تماماً مثل المرشد أو آية الله – وأنه يجسد الصواب المطلق – وهذه هي أسس الفكر الفاشي – وحدة الفكر – إما معنا أو علينا.
ومن المفارقات - أن المحافظين الجدد "المصريين" كثيراً ما ينتقدون الليبراليين المصريين بحجة أنهم جلسوا مع الإخوان المسلمين مثلاً، ويزيدون في هذا بأن يتهموهم بمعاداة السامية - رغم أن القوة الحقيقية للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة استمدوها من تحالف معلن - أشرف على إبرامه إيرفينج كريستول - بين المحافظين الجدد وبين اليمين الديني المتطرف في أمريكا - وهو يحتوي على تيارات كثيرة معادية للسامية بشكل علني.
الفاشية عادة ما تثير نعرة عاطفية لدى العامة لتبرير إلغاء الحريات وتعطيل أو تعويق الديمقراطية وتجييش الموارد والمشاعر لمحاربة الآخر – وهذه النعرة تختلف من نوع لآخر من الفاشيات
مثلاً الفاشية الدينية تلتف حول مذهب ديني يتم توظيفه سياسياً – أن هذا الدين أفضل من غيره – ليس فقط عند الديان – ولكن أيضاً على الأرض – وهو الدين الصواب والحق – ليس فقط في العقيدة والعبادات – بل أيضاً هو دين ودولة وحياة وسياسة – وما عداه هو كفر وهرطقة – وأنه من الأخلاقي أن نقتل من يختلف معنا أو يعوق نشر ديننا
مثلاً الفاشية العرقية أو النازية مثلاً تلتف حول فكرة عرقية – أن هذا العرق (الآري مثلاً أو الأبيض أو الأسود أو العربي أو القبطي) هو الأفضل إطلاقاً – وهو العرق الذي أدى لتقدم البشرية والحضارة – وكل ما عداه يجب أن يخدمه ويخضع له لأن هذه هي سنة الحياة والطبيعة – وأنه من الأخلاقي أن نقتل من يختلف معنا أو يعوق سيادة أبناء هذا العرق
مشروع القرن الأمريكي الجديد
أما المحافظين الجدد في أمريكا فجاءت سياساتهم في اتجاه السيادة المطلقة لأمريكا – مثلاً جاء مشروع القرن الأمريكي الجديد PNAC في صورة مؤسسة وجماعة ضغط - لوبي- أنشأها اثنان من قيادات المحافظين الجدد ويليام كريستول (وهو نجل إيرفينج كريستول) وروبرت كاجان بهدف معلن وهو "الترويج للقيادة الأمريكية للكون"، وجاء ضمن الموقعين على الوثيقة الأساسية له جورج بوش الأب والابن وتشيني ورامسفيلد وكويل وولفوفيتز، وهذه المجموعة وغيرها اتبعت استراتيجية الترويج لسياسات ريجانية تعتمد على القوة العسكرية و"الوضوح الأخلاقي" أو "النقاء الأخلاقي" الذي يعني في هذا الإطار التشدد الفكري:
a "Reaganite policy of military strength and moral clarity."
وكلمة الوضوح الأخلاقي أو "النقاء الأخلاقي" تعطينا مؤشراً سريعاً عن التوجه الفاشيستي لهذه المجموعة، الذي يقوم على التطرف الفكري الذي لايقابله سوى مثلاً التطرف الفكري لليمين الإسرائيلي بزعامة الليكود، وتطرف جماعات الجهاد المتأسلمة، وهذا سر أن هذه الأطراف جميعها تتبنى سياسات تروج لتصادم الحضارات، مما تسبب في ازدياد مشاعر العداء والكراهية والشك المتبادل، سواء لأمريكا في الشرق الأوسط أو تجاه المسلمين في أمريكا، بل انهارت صورة أمريكا عالمياً من جراء هذا التطرف الفكري وسياسات الصدام العسكري في باقي دول العالم - تقريباً دون استثناء - كما سوف نرى من نتائج البحوث.
الفشل والنهاية
بصورة مبكرة، ومنذ أواخر 2003 وخلال النصف الأول من 2004، بدأت تظهر بوضوح أن خطة المحافظين الجدد واستشاراتهم السياسية والعسكرية والاستراتيجية قد فشلت بصورة مزرية في العراق، وأن حالة الانتشاء بنصر سريع لم تكن إلا بداية لفيتنام جديدة، وأن القوات الأمريكية لم ينظر لها أحد في العراق ولا في خارج العراق باعتبارها قوة صديقة جاءت لتحرر العراق، بل باعتبارها قوة احتلال جاءت للسيطرة على منابع النفط. وبدأت ضربات المقاومة العراقية تشتد ويسقط ضحايا أمريكيين يعودون في حقائب الموتى دون سبب مفهوم. وعلى المستوى الداخلي ظهر زيف وكذب وسذاجة أفكار المحافظين الجدد وأصبح واضحاً أن أمريكا قد بدأت حرباً لن تستطيع أن تنهيها ولا أن تنسحب منها. وعلى مستوى العالم كله بدأت الولايات المتحدة تكتسب صورة سلبية باعتبارها قوة غاشمة لا تتورع عن استخدام القوة المفرطة في التدخل في شئون الدول الأخرى - وفي نفس الوقت فإنها تفعل ذلك بخيبة وفشل - وغشومية من يبدأ جريمة ولا يستطيع حتى أن ينهيها، أو يفتح صندوقاً يحوي مجموعة ضخمة من الأفاعي السامة وهو لا يدري كيف سيعيد إغلاقه.
ومع الفشل الذي لاقته سياسات المحافظين الجدد داخلياً وخارجياً والعار الذي جلبته على أمريكا، تقلصت دائرة نفوذهم في أمريكا، وأغلقت "بناك" PNAC في 2006، وأصبحت "شعارات" المحافظين الجدد وأفكارهم منبوذة يسخر منها الجميع ويتندرون بها، حتى أن أحد أعضاء بناك PNAC ورئيس اللجنة الاستشارية لسياسات الدفاع DPBAC ريتشارد بيرل وهو أيضاً أحد المحافظين الجدد تبرأ في النهاية من غزو العراق ووضع اللوم كله على جورج بوش – وبعد إغلاق "بناك" انتقل بعض الأعضاء لمؤسسات أخرى مثل
American Enterprise Institute (AEI) , Foreign Policy Initiative (FPI), Keep America Safe, Institute for the Study of War (ISW) ... etc.
وكلها مراكز بحثية تروج للتدخل الأمريكي العسكري في الخارج دون انتظار لشرعية دولية أو غيرها لأن المحافظين الجدد لا يخفون احتقارهم للأمم المتحدة، ولا يخفون احتقارهم لليبراليين أيضاً باعتبار أن ما يروج له الليبراليون من السلام والتعايش السلمي وجهود ضد الحرب وضد العنف والصراع المسلح - هي من باب "السلبية" والغفلة التي ستودي بأمريكا والعالم إلى التهلكة.
القياسات التي قامت بها Pew Research أوضحت كم انهارت شعبية الولايات المتحدة على مستوى العالم في عهد جورج بوش من 2000 وإلى 2008 – على سبيل المثال – انخفض تأييد البريطانيين لأمريكا من 83% إلى 53% في 8 سنوات – رغم أن بريطانيا هي أهم حليف للولايات المتحدة طوال القرن الماضي - أما في ألمانيا فقد انهار المؤشر من 78% إلى 31% في نفس الفترة (!) ولم يبدأ المؤشر في التحسن إلا بخروج المحافظين الجدد من واشنطن. وهذا المؤشر والدراسات المماثلة تكشف الفشل الذريع للمحافظين الجدد - فبالرغم أن هدفهم المعلن هو قيادة أمريكا للعالم - فإن سياساتهم تسببت في انهيار قيادة أمريكا للعالم، لأن القيادة تتطلب التأييد والدعم والتفويض، بينما الواضح لكل ذي عين أن العكس هو ما حدث - وبهذا يكون المحافظون الجدد قد فشلوا في تحقيق هدفهم الرئيسي - بل وتراجعت قيادة أمريكا للعالم في ظل سياساتهم الصدامية.
المحافظين الجدد أيضاً تسببوا في عبء ضخم على الموازنة لتمويل حروب ومواجهات لا حصر ولا نهاية لها، بما ساهم في انهيار الاقتصاد الأمريكي والأزمة المالية العالمية. إن الاكتساح الديمقراطي غير المسبوق في واشنطن في انتخابات الرئاسة والكونجرس في 2008 وانهيار التأييد الشعبي للحزب الجمهوري وتحول العديد من مشاهير المؤيدين للحزب الجمهوري إلى تأييد الديمقراطيين كان علامة على الرفض الشعبي الواسع لسياسات وعهد المحافظين الجدد والرغبة في فتح صفحة جديدة في السياسة الأمريكية.
هل المحافظون الجدد فصيل ليبرالي؟
من كل ما سبق، والانتقائية في تطبيق المبادئ الليبرالية وحقوق الإنسان، وإهدار مبادئ المساواة بين بني البشر وسيادة القانون "الدولي"، والتشدد في العداء ضد المخالفين في الفكر والعقيدة السياسية، وإهدار مبادئ التسامح والتعايش السلمي، والإصرار على حل النزاعات من خلال التدخل العسكري، والتحالف اللصيق مع قوى دينية محافظة، واستخدام التعابير والرموز الدينية في شئون سياسية بما يفترض احتكار الحقيقة المطلقة، يتضح أن ممارسات المحافظين الجدد وسياساستهم بعيدة تماماً عن الفكر الليبرالي. قد تذخر كتب المحافظين الجدد بالطنطنة للمبادئ الليبرالية، والتأكيد على أن لجوءهم للقوة العسكرية والصراعات العنيفة، إنما هو لنشر المبادئ الليبرالية والحرية والديمقراطية، لكن الليبرالية هي منهج للحياة، ولا يمكن نشر الليبرالية من خلال العنف ولا من خلال طرق فاشية، فالليبرالية مثل أي فكر آخر لا تنتشر إلا بالاقتناع والتجربة التي توضح في النهاية أن هذه المجموعة من المبادئ والممارسات تحقق السلام والأمن والحياة الكريمة لشعب ما، أما محاولة نشر فكر ما بالقوة فثبت عبر التاريخ أنه لا ينجح، بل تؤخر نشر مثل هذا الفكر، وهو بالضبط ما اختبره المحافظون الجدد بأنفسهم في العراق وأفغانستان، وأثبتوه لدارسي التاريخ وعلوم الاجتماع السياسي.
ولكن هناك طريقة عملية لنعرف إذا ما كان المحافظون الجدد ينتمون للتيار الليبرالي. هناك منظمة عالمية اسمها الليبرالية الدولية Liberal International منضم لها ما يزيد عن مائة حزب ليبرالي من أوروبا والأمريكتين وكندا وآسيا وأفريقيا بل والمنطقة العربية. على سبيل المثال الحزب الليبرالي الديمقراطي ببريطانيا، الحزب الكندي الليبرالي، الحزب الليبرالي الألماني، وهكذا. وفي الولايات المتحدة يتعاون الحزب الديمقراطي والمعهد القومي الديمقراطي أيضاً مع منظمة الليبرالية الدولية، فهل يمكن للحزب الجمهوري أن يرغب في الانضمام يوماً ما لمنظمة الليبرالية الدولية؟ من باب الأمانة لابد أن أنقل للقارئ أن وصف "ليبرالي" لا يمكن ابتلاعه أو هضمه وتقبله بسهولة في الولايات المتحدة الأمريكية، لأن كلمة "ليبرالي" مرتبطة هناك في الأذهان لأسباب تاريخية بتيارات يسارية أكثر راديكالية - وهو شيء ليس موجوداً في معظم البلدان الأخرى - لكن بفرض أن الولايات المتحدة تغيرت فيها هذه الصورة، هل يمكن لمنظمة مثل الليبرالية الدولية أن تقبل انضمام حزب مثل الحزب الجمهوري الأمريكي؟ جائز أن يحدث هذا، لكن بالتأكيد لن يحدث هذا في إطار سيطرة المحافظين الجدد على مقدرات الحزب الجمهوري، وأستطيع القول أن المحافظين الجدد هم أقلية في الحزب الجمهوري، لكنها أقلية استطاعت أن تختطف الحزب الجمهوري والإدارة الأمريكية لسنوات طويلة، وعندما يتحرر الحزب الجمهوري من سيطرة هذه الأقلية، سيصبح بالتأكيد أقرب لليبرالية عنه في عصر بوش – عصر القوة الغاشمة والفاشلة.
بعد الفشل في أمريكا محاولة تصدير لمصر؟
وفي النهاية، من الطبيعي أن يكون هناك بعض الأمريكيين الذي يؤمنون بمبادئ المحافظين الجدد ومن حق كل دولة أن تسعى للقيادة – ولكن في عصرنا هذا، لم يعد ممكناً أن يأتي هذا من خلال القوة الغاشمة، ولا يكون هذا على حساب قتل المدنيين والأبرياء والحروب الاستباقية والتعذيب – ولا يكون من خلال نشر الكراهية والزينوفوبيا.
ولكن صراحة – لا أفهم معنى أن يقوم مصريون بالترويج لمبادئ المحافظين الجدد التي تدعو لأن تقوم دولة أخرى وهي أمريكا بفرض سيادتها بالقوة على باقي الدول – بما فيها دولتهم الأم – مصر – ألا يمثل هذا تضارباً في المصالح؟
حتى كل هذا بالمناسبة لا يعنيني ولا يهمني أن ينجح الخمسة أو السبعة المحافظين الجدد المصريين في ضم واحد أو اثنين أو عشرة لمجموعتهم فيصبحوا 15 مثلاً – لكن ما دفعني للتأمل، هو أنهم أمام العامة يدعون أنهم ليبراليون – بينما هم يروجون لممارسات فاشية وليدة فكر محافظ – وفي رأيي أن سياساتهم وممارساتهم فاشية للأسباب التي أوضحتها – فعندما قام المحافظون الجدد "المصريون" بتأييد الهجوم الإسرائيلي على غزة والذي نتج عنه مصرع ما يزيد عن 1000 مدني ثلثهم أطفال - وإصابة الآلاف بأسلحة محرمة دولياً – ثم قاموا مرة أخرى بتأييد الهجوم والقرصنة على قافلة الحرية - فوجدت بالطبع أن بعض الإسلامويين والقومجية يستخدمون هذا كمادة للهجوم على الليبراليين المصريين باعتبار أنهم منافقين أخلاقياً ويؤيدون العنف ضد المدنيين، وبالتالي كان لابد من كشف حقيقة الأمر وتوضيح أن الليبرالية شيء – وفكر وممارسات المحافظين الجدد – الفاشية في رأيي – شيء مناقض له على طول الخط.
Further Reading :
- David Rose, "Neo Culpa," Vanity Fair online, November 3, 2006.
- Jim Lobe & Michael Flynn, "The Rise and Decline of the Neoconservatives,"
- Richard Perle and David Frum, An End to Evil: How to Win the War on Terror, Random House, 2003.
- Jim Lobe, "What's A Neo-Conservative Anyway?" Inter Press Service, August 12, 2003.
- Jim Lobe, "From Holocaust to Hyperpower," Inter Press Service, January 26, 2005.
- Packer, The Assassins' Gate: America in Iraq (Farrar, Straus, and Giroux, New York, 2005).