Tuesday, August 12, 2008

The Fifth Estate (the Fifth Power) 2


التغيير

من وجهة نظر
الفكر الجديد!

مرت أعوام طويلة وعقود متعاقبة، وسبحان من له الدوام، كبر نظار العزبة وأصابهم طول الولاية بثقة قادتهم إلى الخرف فأصبحوا يعملون بجرأة وبجاحة غير محتملة، يمارسون النهب والسلب علناً جهاراً نهاراً، يضربون الصحفيين ويسجنون من يتجاسر ويتحدث عن "بلاويهم". عاثوا في الأرض فساداً حتى نضب البئر وذبل الزرع وجف الضرع. افتروا في الأرض حتى ضج العباد وصرخت الأرض تطلب القصاص! لقد أدى النهب المستمر والفساد وسوء الإدارة لنضوب الموارد فانهار الاقتصاد واستشرت البطالة وأفلس الناس فتصاعد الغضب وأصبح النظام كمن يجلس فوق غطاء إناء يغلي وتتراكم بداخله الضغوط، وأصبح الانفجار مسألة وقت. ومن ناحية أخرى، هبت رياح التغيير على أرض قبائل الهنود الحمر، فالغرب الذي سمح للولاة أن يحكموا الشرق باسمه ولصالحه، طالته نيران الظلم والمعايير المزدوجة في عقر داره، ولم يكن ليستطيع أن يواجه السبب الأساسي وهو إسرائيل، فقرر أن يأخذ بالسبب التالي وهو استبداد النظم ودكتاتورية الحكام وفساد الولاة.

ومن ناحية ثالثة، أصابت الشيخوخة خبراء التزوير والتزييف والتجميد والتحنيط والتخليد والتخليل والإخصاء والإقصاء، فتخطوا سن السبعين، ونتيجة لخوفهم جميعاً من التغيير، ورغبتهم الشديدة في الخلود، لم يدربوا صفوف ثانية متمرسة على التزوير والفساد والسيطرة على مقدرات الشعب من خلال مسرحية التعددية.

ومن ناحية رابعة، شب الأبناء عن الطوق، بعد أن تلقوا العلم في المدارس الغربية، فبدءوا يخجلون من ممارسات الآباء الفاضحة التي تكسفهم مع أصحابهم في الجونة أو القطامية أو مارينا. وكان لابد من تغيير الأساليب لتصبح أكثر عصرية. ووجدوا في مجموعة من رجال الأعمال الصاعدين الشباب من يرسم لهم طرق السيطرة على مقدرات الحكم بوسائل "مودرن" شكلها لطيف و"شيك" ويمكن إقناع الغرب بها خاصة مع تخويفه من التيار الإسلامي وتفتيت الأحزاب المدنية وتلويث سمعة كل من له شعبية عن طريق تلفيق القضايا.

نظرت الأمهات فوجدن فلذات أكبادهن يسرون الناظرين، علماً وثقافة ووجاهة، فتمنين أن يروهم في الحكم بعد أن يستكملوا الشكل الاجتماعي المناسب. وكانت العقبة أن أعضاء لجنة الحكم وأقطاب السلطة الخامسة ونظار العزبة من الحرس القديم قد أصابهم الغرور وتصوروا أنهم أحق بالحكم من صبية "الفكر الجديد" فهم لا شعبية لهم ولا حنكة سياسية، صبية متغطرسين لم يصافحوا الأيدي العرقانة المطينة، لم يتمرسوا في أصول التزوير أو التزييف، صبية أيديهم لينة رخوة، لم تمارس أساليب التزوير القذرة ولم تختلط بالبلطجية والمجرمين. وهذا الصراع رأيناه كثيراً على مر التاريخ، وهو أن المماليك ينقلبون على ابناء السلطان الراحل أو في حياته، وقد ينجحون وقد نجحوا بالفعل من قبل. وكان لابد من التخلص من هؤلاء المماليك.

راح أولهم ضحية موضوع المبيدات المسرطنة التي تم غزلها بعناية، فطالت جميع مساعديه وبقي هو آمناً من العقاب طالما ابتعد عن اللجنة وقبل بالإحالة للاستيداع، وتكفلت تحالفات انتخابية معقدة بإسقاطه في دائرته الانتخابية!

أما الثاني، فقد طالته نيران فساد الإعلام والإعلان فتم القبض على أحد صنائعه وشريك ولده في الأعمال كرهينة، ضماناً لوقوفه على الحياد أثناء المعركة الكبرى، معركة كامل الأوصاف. فوقف على الحياد وتمت الإطاحة بكامل الأوصاف وبعدها مباشرة خرج الصنيع الرهينة وتم حفظ الموضوع. وقبله تم القضاء على مساعديه من أباطرة الصحف، وتم تسريب العديد من الملفات والاحتكارات في مجال الطباعة والأحبار والجاكوزي وغيرها من فضائح كفيلة بإخراسهم بحيث تمت الإطاحة بهم على مرحلتين بعد قياس رد فعلهم.

أما كامل الأوصاف، فهو يتعجب، لأن موضوع الصراع بين الحرس القديم والحرس الجديد كان بالنسبة له من باب وضع التوابل على مشهد سياسي عديم الطعم والرائحة، وهو لم يقصد أن يمنع الأبناء الأعزاء من أن يتبوءوا المكان الذي يستحقونه، ولكنه كان مخلصاً في نصحه للآباء والأمهات، بأن الشعب لن يقبل بالتوريث ولو انطبقت السماء على الأرض. وفي كل الأحوال فهو شاكر لما أصابه من نعيم، وراض بما أصابه من إقصاء أليم، ولم يكن يطمح لما هو أكثر من رئاسة المجلس لا المجالس، وفي كل الأحوال فهو لن يتسبب في أي مشكلة. أما صانع المليونيرات، فهو صبي لا أكثر ولا أقل، ولم يكن التخلص منه بالمسألة الصعبة، ولأنه قدم المجوهرات والهدايا والأراضي والفلل والقصور، فكان الجزاء من نفس صنف العمل، قلادات عظيمة وتشريف ما بعده تشريف.

اللجنة الحاكمة الجديدة
أصبح الطريق إذا ممهداً لضم أعضاء جدد من الشباب للجنة الحكم، وهم شباب ينادون الأب يا "أونكل" وبالتالي فهم أقرب إلى كونهم أفراداً ينتمون بكل حبهم وولائهم للعائلة التي تمرغوا في ترابها فوجدوا التراب تبراً واحتكارات سخية. لم يعد هناك من المماليك غير خالد الذكر، وهو مطمئن لأنه كان بمثابة المعلم للأبناء، والأمين على مستقبلهم والأمين أيضاً على الصندوق الذي يمول كل الأنشطة الخفية، وهو بالطبع لا يعلم أن ساعته هو أيضاً قد اقتربت، وبقاؤه هو مسألة وقت، وهناك من يتم تدريبه على أن يحل محله.

استقرت الأمور للجنة الجديدة، وكان من الضروري أن يتم تأجيل انتخابات المحليات لفترة تكفي لأن تستطيع السلطة الخامسة الجديدة أن تسيطر على مقدرات الحكم وتبدأ في نشر قواتها ومندوبيها في عرض البلاد وطولها، والتغلغل في الوحدات الحزبية والمصالح الحكومية، بفصيل جديد من شباب الكومبيوتر المحمول الذي تدرب في جمعية جيل المستقبل وأدار الحملة الرئاسية.

أما التوريث، فلا تشغل بالك به، فهو لن يحدث بالصورة الساذجة الذي تظنها، لأن التوريث لن يصبح توريثاً للمنصب بصورة مباشرة صريحة، بل سيصبح عن طريق انتقال قيادة السلطة الخامسة واللجنة العليا الحاكمة إلى صاحب الحق الشرعي في الحكم من وراء ستار، وليجلس على كرسي الرئاسة من يجلس، طالما بقيت السلطة الحقيقية في يد اللجنة، وطالما آلت إدارة اللجنة إلى الأبناء الأعزاء. وألف مبروك النجاح والخطوبة.

The Fifth Power 1

تبديل السلطة الخامسة

منذ سنوات عديدة، احتلت فكرة "التوريث" مساحة كبيرة من صفحات وشاشات وسائل الإعلام. ويتعجب البعض، كيف يتمكن الحزب الوطني من توريث السلطة أو حتى البقاء فيها، على الرغم من فشله المزمن، والرفض الواسع الذي يتيمتع به، وتدنى شعبيته إلى الحضيض، وهو ما تجلى في حصوله على 32% فقط من مقاعد مجلس الشعب رغم البلطجة والتزوير وشراء الأصوات واستغلال موظفي الحكومة الأحياء منهم والأموات في التصويت لمرشحي الحزب الوطني. ولكنني في الواقع، لا أنشغل بسيناريو التوريث ولا أخشى منه، لسبب بسيط، وهو أن التوريث قد حدث بالفعل ويحدث من زمان، فقد اعتدنا منذ وفاة الرئيس عبد الناصر أن يرث نائب الرئيس مقعد الرئاسة، أي أن النظام يأتي بأحد أبنائه من ذوي الثقة أو ممن يظن أولو الأمر أنهم طوع إرادة اللجنة الحاكمة، بما يضمن استمرار اللجنة الحاكمة في إدارة شئون البلاد بصرف عمن يجلس على مقعد الرئاسة.


اللجنة الحاكمة
وفكرة اللجنة الحاكمة توجد في العديد من دول العالم بما فيها الدول الديمقراطية بصورة أو أخرى، فالبعض يؤكد أن تلك اللجنة الحاكمة قررت أن تتخلص من الرئيس الأمريكي جون كينيدي – وتتخلص من أخيه روبرت كينيدي وزير العدل فيما بعد - لأنه خرج عن طوعها وبدأ يكتسب شعبية سوف تمكنه من تمرير قوانين وسياسات تتعارض مع مصالح تلك اللجنة رغم أنف اللجنة ومن يقف وراءها من رجال أعمال وشبكات مصالح. والبعض الآخر يؤكد أن "المؤسسة الإنجليزية" هي التي قررت التخلص من الأميرة ديانا وهكذا.

وعندما توفي الرئيس عبد الناصر، يكتب بعض من عاصروا تلك الأيام، أن اللجنة الحاكمة رأت أن السادات هو أقل أعضاء مجلس قيادة الثورة خطراً وشعبية، وأنهم بتنصيبه رئيساً سوف يضمنون استمرارهم في الحكم من وراء الستار. ولكن السادات أثبت أنه يفوقهم في الدهاء، وكان أيضاً محظوظاًً بقدر كبير، فقد استطاع في مايو 1971 أن يزيح معظم من أسماهم بمراكز القوى بضربة واحدة أطلق عليها السادات فيما بعد "ثورة التصحيح".

وطوال فترة الستينيات، رأى السادات عن قرب الشلل الذي أصاب الإدارة المصرية نتيجة لسيطرة اللجنة الحاكمة على مقدرات الحكم وكل مجالات الحياة في مصر رغم أنف الرئيس الرسمي للبلاد – جمال عبد الناصر – بدءاً من كرة القدم مروراً بالفن والصناعة والتجارة، وهو الشلل الذي أدى في النهاية لأسوأ هزيمة تتعرض لها مصر على مر تاريخها الطويل، هزيمة 1967 التي لا زلنا نعاني من آثارها السلبية. ولهذا حاول السادات ألا يسمح بإعادة تكوين اللجنة الحاكمة، عن طريق التغيير المستمر في الوزراء والمسئولين، وأحاط نفسه بدائرة هو مركزها من رجال الأعمال والمستشارين والإعلاميين استمدوا جميعهم تأثيرهم من الجالس على الكرسي في مركز الدائرة، بحيث لم يكن لهم مجتمعين علاقات وطيدة كمجموعة مصالح.

وفكرة اللجنة الحاكمة، أو السلطة الخامسة الخفية، تفترض أن هناك ناد شبه سري، بعض أفراده قريبون بحكم مناصبهم الرسمية من دائرة صنع القرار، بينما يستمد البعض الآخر نفوذه من الدور الحيوي للنظام، رغم أن هذا الدور لا يمكن الإفصاح عنه في دائرة الضوء لحساسيته.

وبعد وفاة الرئيس السادات، ولأسباب عديدة وبصورة تدريجية، بدأت سلطة خامسة جديدة تتشكل على استحياء، بحيث أصبح أفرادها يشكلون أعمدة رئيسية يقوم عليها البنيان الموازي للنظام. وهذه الأعمدة، سواء إعلامية، أو سياسية، أو تنفيذية، أو أمنية، أو تشريعية، أو قانونية، أو مالية، أو إدارية، أو معلوماتية، أو مؤثرة في دوائر مهنية أو عمالية بعينها، أصبحت هي البديل الموازي عن الأعمدة الرسمية المؤسسية التي يفترض أن تدعم بقاء النظام وشرعيته. ولأن جميع الكيانات الموازية بطبيعتها هي كيانات غير معلنة ولا تخضع لقواعد المساءلة أو المحاسبة أو الرقابة، فإن هذه الكيانات حتى لو بدأت بنوايا حسنة أو توجهات وطنية، فإنها سرعان ما ينخر فيها الفساد، وتبدأ في العمل كدويلات أو إقطاعيات أو نظم فرعية، ويصبح هدف القائمين على هذه النظم هو بقاء النظام الفرعي نفسه بصرف النظر عن الفائدة أو الضرر الذي يعود على الوطن أو حتى على نظام الحكم ككل من جراء استمرارها وبقائها. وهذا الفساد يصبح بسرعة حملاً ثقيلاً على الوطن، بل يصبح مثل كيان سرطاني أو طفيلي يمتص دماء الوطن وينتقص من شرعية وشعبية النظام الذي أوجدها في الأساس ليكتسب مثل هذه الشرعية.

أعمدة النظام
وقد يكون من المفيد أن ندرس الأعمدة التي قام عليها النظام خلال الثلاثين عاماً الماضية.

العمود الأول هو عمود التزييف الإعلامي. فمن خلال السيطرة على الإعلام واحتكار القنوات التليفزيونية والإذاعية والصحف تمكن النظام عبر سنوات طويلة من إخضاع الشعب عن طريق عملية غسيل مخ منظمة لوثت الوعي الوطني واعتقلت الشعب في غيبوبة فكرية هي مزيج من أوهام الريادة المشبعة للغرور الوطني، وعفاريت التخويف باعتبار أن التغيير مثل أمنا الغولة، لأن "اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش" و"دول شبعوا خلاص" وغيرها من الهلاوس. وحتى عندما بشرونا بالسماوات المفتوحة، اخترق أصحاب الريادة الفضائيات العربية بحيل عديدة وباستخدام الابتزاز ووظفوا العملاء والعميلات في كل برنامج يدخل بيتي وبيتك في القاهرة أو أسوان.

العمود الثاني هو عمود التقليم والإخصاء والإقصاء لكل من يمكن أن يهدد النظام. وقام على هذا العمود زبانية البوليس السياسي تعاونهم أجهزة رقابية وقانونية رفيعة المستوى. تغلغل البوليس السياسي في كل منشأة سواء أكاديمية أو إعلامية أو حكومية أو حزبية. وأصبح البوليس السياسي هو صاحب اليد العليا في كل قرار أو تعيين، فسلطة رائد صغير أو مقدم من البوليس السياسي يرتعش أمامها أي لواء عادي أو مسئول كبير مهما كبر منصبه. وقد رأينا كيف تجاسر ضباط البوليس السياسي فأهانوا القضاة واعتدوا عليهم أثناء الانتخابات الماضية، وأشرفوا على عمليات الاقتراع وشراء الأصوات والفرز والتزوير. ومن قبلها اخترقوا الأحزاب ليديروها لمصلحة الحزب الحاكم، لوأد أي نشاط سياسي يمكن أن يؤدي لتغيير الأوضاع أو أيقاظ الشعب من الغيبوبة الفكرية والعقم السياسي.

العمود الثالث هو شبكة الفساد المتداخلة مع السياسة والبيزنس الصغير والمتوسط، وقد قام به باقتدار الحاج كامل الأوصاف على مدى ربع قرن، نجح خلالها في ربط مصالح الخلق بمجموعة فاسدة من "السياسيين" والمسئولين وأعضاء المحليات، ومسئولي الاتصال بوحدات الحزب الحاكم من العاملين بالدولة والحاصلين على "تفرغ سياسي" منذ أيام الاتحاد الاشتراكي. فأصبح الفساد متغلغلاً في كل منشأة حكومية أو خدمية، وأصبح قضاء أي مصلحة مرهوناً بعلاقة مع نواب التأشيرات وكل شيء وله ثمنه، بحيث أصبح تغيير الأوضاع يضر بمصالح كل من لهم مصالح أو أعمال أو طلبات استثنائية! وليس أدل على ذلك من أن اختيارات الحزب الحاكم في الانتخابات كانت دائماً تذهل الشخص العادي، فالحاج كان دائماً يختار أكثر المرشحين فساداً، وليس هذا لأنه عديم النظر لا سمح الله، بل لأنه شخص حصيف وحريص على مصلحة النظام – أو هكذا قاده فكره – ويفهم جيداً أصول اللعب.

العمود الرابع هو شبكة الولاء وهي أعقد الشبكات وأكثرها غموضاً. ويقوم على هذه الشبكة خالد الذكر شديد العزم، العضو البارز في اللجنة الحاكمة وعقلها المدبر، وهو مسئول عن إدارة "صندوق الولاء" الذي تغذيه شراكات متينة مع كبار رجال الأعمال من أصحاب الاحتكارات الكبرى والعبارات وكبار الموردين للدولة علاوة على الشركات الأمنية التي تحصل على أعمال بالمليارات بالأمر المباشر، وهي شركات خارج القانون الطبيعي ولا تخضع أموالها لأي رقابة أو محاسبة. وهذا الصندوق تخرج منه "مظاريف الولاء" الشهرية التي تذهب لكبار القادة والمسئولين لضمان ولائهم للنظام ولجنة الحكم، وهذه المظاريف بالمناسبة لا تفعل أي شيء سوى أنها تعطي الحق لأصحابه، فمن غير المعقول أن يحصل هؤلاء القادة على راتب بضعة آلاف من الجنيهات مثلاً بينما يقومون على شئون حساسة ومسئوليات جسيمة، وكان من الواجب أن يحصل كل من هؤلاء المسئولين على دخل عادل يماثل المسئولية الملقاة على عاتقهم، ولكن من خلال الطريق القانوني السليم بشفافية كاملة، دون الحاجة لمثل تلك المظاريف المهينة التي تحاول أن تحيد بولائهم ليصبح تجاه أشخاص وليس للوطن، ومن هنا جاء لفظ "ظرفه" أي اعطه ظرفاً سميناً.
وقد قامت شبكة الولاء بتوسيع نشاطها لتضم عضواً هاماً هو "صانع المليونيرات"، وقد ضموه دون أن يعلم، فهم لم يثقوا به تماماً رغم هداياه الكثيرة من مجوهرات وأراض، لم يثقوا به نظراً لسوء سمعته قبل أن يلي المنصب الكبير، وعينه الفارغة رغم المليارات التي اختلسها أثناء ولايته. ووظيفة صانع المليونيرات كانت أن يعطي الإقطاعيات من أراضي الدولة وشاليهاتها وفللها الساحلية لكبار المسئولين والقادة أيضاً لضمان ولائهم وربط مصالحهم بشبكة الفساد وبقاء النظام. فمن يدخل مكتبه فقيراً معدماً يخرج مليونيراً أو مليارديراً بشرط أن يحتمل سوء طباعه وسلاطة لسانه وعينه الزايغة وألفاظه القبيحة، وسر هذا التحول يكمن في خطاب التخصيص الذي يباع ساخناً بالملايين، أما إذا برد بعد أن يتم تسقيعه، فقد يصل ثمنه لمئات الملايين ويمكن بضمان خطاب التخصيص اقتراض المليارات من بنوك المحروسة العامرة، وهي بالمناسبة محروسة فعلاً بعتاة المسئولين من زملاء علي بابا في أرض الأحلام.

العمود الخامس – وهو العمود الفقري – لن أتحدث عنه نظراً لطبيعته الحساسة ولأنني أتمنى أن أثق في وطنيته Wishful Thinkingوأنه سوف يلتزم بالشرعية التي تفرزها العملية السياسية بصرف النظر عن طبيعة هذه العملية السياسية أو عمق مشروعيتها.

وهناك العديد من الأعمدة الفرعية والكمرات، مثل التعليم الذي يرسخ خضوع الأجيال القادمة ويقتل فيهم ملكة التفكير الحر ويغتال روح الإبداع والتغيير لصالح التجميد والتوريث، والتشريع التفصيل الملاكي الذي يبعث السرور في نفوس الحكام، واللجان الانتخابية ذات القدرات السحرية وسلطات إلهية، وهي قدرات استطاعت تحويل الهزيمة إلى نصر متين، وتحويل النخلة إلى هلال مبين. وهناك أيضاً الملايين من موظفي الدولة والنقابات العمالية والإدارات المحلية، التي تضمن كلها استغلال السلطة في المبايعة الأبدية مدى الحياة وما بعد الحياة للأبناء والأحفاد والأسرة الملكية كلها.

ومن هنا نرى أن أعضاء لجنة الحكم أو السلطة الخامسة كانوا هم القائمين على هذه الأعمدة التي ذكرناها والتي تدير الدولة من وراء الستار، علاوة على ممثلي الملاك والورثة ليكتمل مجلس إدارة السلطة الخامسة التي تتحكم فعلياً في شئون الدولة بعيداً عن الدستور والمؤسسات والسلطات الشرعية قليلة الأثر وعديمة الخطر، لأنها تتبع التعليمات الشفوية والتليفونية مهما تعارضت مع الدستور والقانون والمنطق الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، وتلتزم بالتوجيهات بطاعة كاملة وسلاسة تحسد عليها المحروسة. وهكذا سارت الأمور لسنوات طويلة بنظام افتح يا سمسم، ذهب ياقوت مرجان أحمدك يا رب!

Suing Britain for Damages
Resulting from Balfour Declaration

طلب تعويض
من الحكومة البريطانية
والدول المشتركة
في مؤتمر سان ريمو
في حديثه لمجلة "السياسي الجديد" New Statesman قال "جاك سترو" وزير خارجية بريطانيا "الكثير من المشاكل التي نتعامل معها الآن هي نتيجة لماضينا الاستعماري ... فوعد بلفور الذي أعطيناه لليهود والوعود المعاكسة التي أعطيناها للعرب في نفس الوقت هي جزء من تاريخ حافل ولكنه غير مشرف". وعلى الفور قام حزب المحافظين المعارض بانتقاد هذه الآراء، فأصدر داوننج ستريت تصريحاً بأن ملاحظات سترو "تصف التاريخ بصورة منطقية"!

وقد طرحنا منذ عدة سنوات أهمية أن تقوم منظمات أهلية تمثل الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي وشعوب المنطقة المتضررة من الصراع العربي الإسرائيلي، بمطالبة بريطانيا والدول الموقعة على اتفاقية سان ريمو (عصبة الأمم 1920) بتعويضات مناسبة، وذلك من منطلق مسئولية بريطانيا - وباقي دول المؤتمر - عن الأضرار التي نشأت عن "محاولة تقنين وتنفيذ" وعد بلفور
[1] (1917) بناءً على الأسباب التالية:
1- من الناحية الفنية، لم يكن لبريطانيا أن تصدر مثل هذا الوعد عام 1917، حيث أن أرض فلسطين كانت لا تزال تابعة للدولة العثمانية آنذاك، كما أن هذا الوعد يتعارض مع روح القانون الدولي في كل جوانبه، فكيف تعطي بريطانيا وعداً لمجموعة ما، يسمح لتلك المجموعة بالاستيطان في أراضي دولة أخرى، وكان الأحرى ببريطانيا أن تسمح لليهود بالاستيطان على جزء من الأراضي البريطانية التي تخضع لسلطة الحكومة البريطانية.

2- أن وعد بلفور قد نص على "قيام وطن قومي لليهود في فلسطين “the establishment in Palestine of a national home for the Jewish people” ولم ينص على قيام دولة يهودية “Jewish State” في فلسطين، ولكن في النهاية، أدى الانتداب البريطاني لقيام دولة يهودية في فلسطين.

3- أن وعد بلفور قد نص صراحة على "إننا سوف نبذل أقصى جهد لتسهيل الوصول لهذه الغاية، ويجب أن يكون واضحاً أنه لن يتم اتخاذ أي إجراء يخل بالحقوق الدينية أو المدنية لسكان فلسطين من غير اليهود it being clearly understood that nothing shall be done which may prejudice the civil and religious rights of existing non-Jewish communities in Palestine وفي النهاية، لم تستطع بريطانيا، ولا الدول الموقعة على اتفاقية سان ريمو أن تفي بهذا الوعد أو تحمي حقوق السكان الأصليين، وأدت موجات الهجرة المتوالية لتغيير التركيبة الديموجرافية لفلسطين واشتعال المواجهات العنيفة بها، إلى أن انسحبت بريطانيا في 14 مايو 1948 لتترك الفلسطينيين يواجهون الطرد والذبح والتشريد كلاجئين.

4- أن الدول الموقعة على اتفاقية سان ريمو قد "أيدت" وعد بلفور و"انتدبت" بريطانيا لتشرف على تنفيذ هذا "الوعد"، دون أن تستطلع رأي السكان الأصليين بالمخالفة للأعراف الدولية، مما أدى لوجود شعبين يتنازعان على أرض واحدة، أحدهما يملك الحق المدني في الدولة بحكم المولد والإقامة المستقرة، والآخر يحمل ترخيصاً من "غير ذي صفة – عصبة الأمم" ليهاجر إلى فلسطين ويستقر بها.

والمطالبة بأن تعتذر بريطانيا والدول الموقعة على اتفاقية سان ريمو للشعب الفلسطيني – والشعوب العربية والشعب الإسرائيلي وهي الشعوب التي عانت نتيجة لهذه الوعود - وأن يأتي هذا الاعتذار بصورة رسمية مدعماً بتعويضات مناسبة هو أمر ذو دلالة رمزية ونفسية هامة لدول المنطقة التي حرمت من العيش بسلام لعقود طويلة، كنتيجة مباشرة للفساد القانوني لوعد بلفور، ومخالفة قرار عصبة الأمم - بانتداب بريطانيا للإشراف على تنفيذ وعد بلفور- لأعراف القانون الدولي.

وفي النهاية، فهذه المقترحات اجتهادات شخصية، وأتمنى أن يتلقف الدعوة بعض من المتخصصين في القانون الدولي لمناقشة مدى فاعلية وقانونية البعد "الأهلي" في المفاوضات العربية الإسرائيلية في المرحلة القادمة.
************



[1] Foreign Office, Nov. 2, 1917

Dear Lord Rothchild,

I have much pleasure In conveying to you, on behalf of His Majesty's Government, the following declaration of sympathy with Jewish Zionist aspirations which has been submitted to, and approved by, the Cabinet:
"His Majesty's Government views with favour the establishment in Palestine of a national home for the Jewish people, and will use their best endeavors to facilitate the achievement of this object, it being clearly understood that nothing shall be done which may prejudice the civil and religious rights of existing non-Jewish communities in Palestine, or the rights and political status enjoyed by Jews in any other country.”
I should be grateful if you would bring this declaration to the knowledge of the Zionist Federation.

Yours sincerely,
Arthur James Balfour

Palestinian Refugees - Right of Return 1

الحفاظ على حقوق

اللاجئين الفلسطينيين


بدائل إستراتيجية




التفاوض كبديل عن اللجوء لأدوات العـدالة الدولية
جاء الطرح الأمريكي - بدءاً من السبعينيات - بضرورة حل الصراع العربي الإسرائيلي عبر التفاوض الثنائي المباشر بين كل من دول المواجهة وإسرائيل لتحقيق عدة أهداف:
1- التفاوض المباشر يعطي اعترافاً ضمنياً بحق إسرائيل في الوجود والعيش بسلام، ويكسر الحاجز النفسي بين أطراف النزاع.
2- التفاوض الثنائي وليس الجماعي يعظم من القوة التفاوضية لإسرائيل على حساب العرب.
3- اتخاذ التفاوض – وليس مرجعيات وأدوات العدالة الدولية – كوسيلة وحيدة لحل الصراع يضمن أن يأتي الحل متماشياً مع الأمر الواقع، ويعطي للطرف الأقوى عسكرياً – إسرائيل – الفرصة في التهام الحقوق العربية، عكس اللجوء لأدوات العدالة الدولية - مثل محكمة العدل الدولية – والتي غالباً ما سوف تنتصر لأصحاب الحق – العرب – على حساب الغاصب – إسرائيل – بصرف النظر عما تملكه الأخيرة من مزايا تفضيلية تفاوضية ناشئة عن احتفاظها بالأراضي العربية كأمر واقع، وامتلاكها لأكبر قوة عسكرية في الشرق الأوسط مدججة بأحدث الأسلحة الأمريكية علاوة على أسلحة الدمار الشامل، بالإضافة إلى التأييد الأمريكي المطلق لإسرائيل، وكلها أمور ترجح كفتها التفاوضية. والتفاوض مع الطرف الغاصب في غياب الشرعية الدولية وانعدام إرادة فرض تلك الشرعية، أشبه بأن تلجأ ضحية لا تملك القوة أو السلاح للشرطة لاستعادة حقوقها التي سلبها "بلطجي" مدجج بالسلاح، فتأمرها الشرطة بالتفاوض مع المجرم تحت تهديد السلاح.

وقد جاء هذا التوجه الأمريكي احتراماً لتعهدات الولايات المتحدة لإسرائيل قبل حرب 1967، بأن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تضمن التفوق الإسرائيلي العسكري على الدول العربية مجتمعة، وأنها لن تضغط على إسرائيل لإعادة الأراضي العربية التي كان من المقدر أن تكتسبها نتيجة لتلك الحرب، مع الأخذ في الاعتبار حجم المخاطرة التي أخذتها إسرائيل على نفسها بشن الحرب على ثلاث جبهات في وقت واحد، وقيامها بتنفيذ سياسة أمريكا بإسقاط أو إضعاف نظام عبد الناصر. وهذا التعهد الأمريكي جاء لضمان ألا تكرر أمريكا ما فعله إيزنهاور أثناء حرب 1956، عندما "انتصر للمبادئ على حساب الصداقات"، مما سمح لعبد الناصر أن يحرز نصراً سياسياً رغم هزيمته العسكرية أثناء العدوان الثلاثي.

دروس من إستراتيجية السادات التفاوضية
ومن الملاحظ أن مصر قد أدركت عدم جدوى اللجوء للشرعية الدولية، فجاء السادات في السبعينيات واستخدم تقنيات تفاوضية جديدة أثبتت نجاحاً ملموساً في تحقيق الغرض منها:
1- وضع السادات أمريكا في صورة الشريك النزيه والأوحد، فحيد الرأي العام الأمريكي وقطع خط الرجعة على من يدعون أن مصر تعمل لمصلحة السوفييت في الحرب الباردة.
2- بذهابه للقدس وحديثه للمجتمع الإسرائيلي مباشرة، وندائه بجعل حرب أكتوبر هي آخر الحروب، اكتسب السادات تأييداً واسعاً داخل المجتمع الإسرائيلي وبالتالي داخل اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة ووضع الإدارة الإسرائيلية في موقف حرج داخلياً وخارجياً، لا تستطيع معه إفشال هذه الفرصة التاريخية.
3- خاطب السادات الرأي العام العالمي من منطلق الدعوة للسلام من موقف القوة بعد ما أنجزته مصر في حرب أكتوبر (سلام الشجعان – سلام الأقوياء).
4- لم يتفاوض السادات باسم أحد، ولم يتنازل عن حقوق الفلسطينيين – باعتبار هذه الحقوق هي السبب الأصلي للصراع – بل أن اتفاقية "كامب ديفيد" ذكرت 3 مراحل لحل القضية الفلسطينية، بدءاً بالحكم الذاتي، وصولاً لترتيبات الوضع النهائي.

ودون أن ننتقص من قدر السادات كزعيم وطني ذي رؤية مستقبلية ثاقبة وخيال واسع، فهناك أيضاً أخطاء منهجية وتكتيكية وقع فيها السادات(Telhami, Shibley; Raiffa, Howard; etc.) ، ويجب أن تعيها الأجيال الحالية والقادمة من المفاوضين العرب، مثل "الثقة" الزائدة في نزاهة "شركاء" التفاوض، ووضع كل الثقل التفاوضي في يد شخص واحد على قمة صنع القرار – السادات نفسه - بدلاً من وجود طبقات مؤسسية وفنية متتالية للوصول إلى التفاصيل النهائية، مع ضرورة تصميم "أبواب خروج" Exit Strategies وخطوط دفاع تفاوضية ثانية وثالثة.

وقد مشي عرفات على درب السادات – وإن جاء هذا متأخراً 12 عاماً، عندما أقر بحق إسرائيل في الوجود، وقام بقبول المفاوضات المباشرة، وصولاً لاتفاقية أوسلو في سبتمبر 1993، وتلاها انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وغزة، وقيام "السلطة الفلسطينية"، تمهيداً لإعلان الدولة الفلسطينية في غضون 5 سنوات. وأدرك اليمين الإسرائيلي أن الدولة اليهودية على وشك أن تدخل في نفس القفص الذي سبق وأن حوصرت فيه على يد السادات، فقامت قيادات الليكود بانتقاد رابين – (حكومة حزب العمل) بشدة، ووصمته بالتخلي عن الحقوق التاريخية للشعب اليهودي، وعلى أثر ذلك قام المتطرفون باغتيال رابين.

اليمين الإسرائيلي يتراجع
ثم جاء نتنياهو إلى الحكم، وألقى بكل ثقله لإلغاء اتفاقية أوسلو، وبذل مجهوداً كبيراً في إقناع المنظمات اليهودية الأمريكية بأن عرفات ليس بشريك سلام يعتمد عليه، ولكن الشعب الإسرائيلي لم يكن مستعداً للتخلي عن حلم السلام بعد أن لاحت ثماره، فأطاح بنتنياهو (الليكود) وجاء بباراك (العمل مرة أخرى)، وبدا أن باراك مستعداً لإتمام صفقة رابين، واقترب الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني للغاية من التوصل لاتفاق سلام في كامب ديفيد في أغسطس 2000، حتى توقف الطرفان عند نقطة "حق العودة للاجئين"، ففشلت المفاوضات، وأعلن باراك وكلينتون أن عرفات لم يكن مستعداً لقيادة شعبه نحو تقبل التضحيات اللازمة لحل الصراع، فنجحت خطة نتنياهو في إثبات أن عرفات ليس شريك سلام Not A Peace Partner (سوف نعود لهذه النقطة فيما بعد). واتبع اليمين الإسرائيلي سياسة استبدال اللاعبين وتصعيد الموقف، فدخل شارون – وهو خارج السلطة - الحرم القدسي محاطاً بثلاثة آلاف جندي مدججين بالأسلحة، لتندلع عقب ذلك انتفاضة الأقصى في 28 سبتمبر 2000 (يوم الذكرى الثلاثين لوفاة عبد الناصر)، وجاء شارون إلى الحكم، لينتهي فصل "أوسلو" بإعادة احتلال الأراضي الفلسطينية، وحصار عرفات، ثم بناء السور العازل.

الشرك الليكودي
ويلاحظ أن الفلسطينيين قد وقعوا في الشرك الذي رسمهما لهم نتنياهو وشارون، عندما تحولوا من الرفض السلمي – انتفاضة الحجارة – للعمليات الاستشهادية / الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين – فحدث تحول للرأي العام العالمي بعد أن كان يؤيد الحقوق الفلسطينية على طول الخط، ودعم هذا التحول لغير صالح الفلسطينيين وقوع أحداث 11 سبتمبر الدامية، والربط بين الإرهاب الدولي والعمليات الاستشهادية – أو الانتحارية – ليتم تصنيف العديد من منظمات المقاومة الفلسطينية كمنظمات إرهابية، وأعلنت الولايات المتحدة وإسرائيل بصورة نهائية أن عرفات "ليس بشريك سلام" ووصمتاه برعاية الإرهاب أو على الأقل السكوت عليه، علاوة على الفساد واحتكار السلطة.

هل كان يجب على عرفات أن يتنازل عن حق اللاجئين في العودة؟
مبدئياً، ومن الناحية الفنية، أشكك في أهلية عرفات رحمه الله – أو أهلية أي رئيس للسلطة الفلسطينية – للتنازل عن حق اللاجئين في العودة، للأسباب التالية:
1- رئيس السلطة الفلسطينية هو رئيس منتخب من أهالي الضفة الغربية وغزة، وليس لديه أي تفويض بتمثيل اللاجئين.
2- ما الذي سوف يحصل عليه اللاجئون مقابل تنازلهم عن حق العودة؟ ليس من المنطقي أن يتنازل اللاجئون عن حق العودة مقابل أن تحصل مجموعة أخرى من الفلسطينيين على حق إقامة دولة لهم، فهنا التنازل لا تقابله أية مصلحة للطرف المتنازل.
3- بفرض حصول رئيس السلطة الفلسطينية على تفويض أو توكيل قانوني من اللاجئين ليتفاوض باسمهم، فهذا التوكيل في طبيعته توكيل "خاص" بشروط محددة، يلتزم معها المفاوض باستعادة الحقوق والأراضي والحصول على تعويضات مناسبة، وليس من ضمن هذا أن يتنازل عن حق "المواطنة" الخاص بمن وكلوه، لأن حق المواطنة هو حق أصيل من حقوق الإنسان لا يمكن التنازل عنه. وإذا قبل اللاجئون الفلسطينيون التنازل عن حق المواطنة، فماذا تصبح جنسيتهم بعد ذلك؟ هل يصبحون عديمي الجنسية؟

من الأفضل إذن أن نسأل السؤال بصور أخرى. من هم الذين يمثلهم رئيس السلطة الفلسطينية؟ والجواب هنا في رأيي، أن رئيس السلطة الفلسطينية يمثل من انتخبوه، وهم أهالي الضفة الغربية وغزة. والسؤال التالي هو: ما هي المجموعات الأخرى الفلسطينية؟ والجواب في تصوري هو:
1- عرب 48 الذين يعيشون داخل إسرائيل ويعانون من التمييز العنصري المقنن.
2- اللاجئون الفلسطينيون الذين نزحوا عن أراض تقع اليوم داخل إسرائيل بحدودها "التقريبية".
3- اللاجئون الفلسطينيون الذين نزحوا عن أراض تقع اليوم داخل نطاق الأراضي الفلسطينية المحتلة.
4- علاوة على الفلسطينيين الذين يعيشون داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
هل يجب أن يسعى رئيس السلطة الفلسطينية لتمثيل كل الفلسطينيين؟
في تصوري، يجب أن يتجنب رئيس السلطة الفلسطينية تمثيل المجموعتين (1) و (2)، ويقتصر على تمثيل المجموعتين (3) و (4)، وبهذا، فإن انتخابات رئيس السلطة يجب أن تمتد لتشمل ترتيبات خارج الأراضي المحتلة، ليشارك فيها كل من يعيش في - أو نزح عن - أراض فلسطينية تقع داخل نطاق الحدود "التقريبية" للدولة الفلسطينية المقترحة. لماذا؟ لأن المجموعات الفلسطينية الأخرى لها مصالح مختلفة وتعاني من مشاكل أكثر تعقيداً، ولابد من حلها بوسائل أخرى. ومن حسن الحظ، أن هذه المشاكل بطبيعتها من النوع الذي تقل درجة تعقيده بمرور الزمن، وخاصة بعد التوصل لاتفاق سلام بين السلطة الفلسطينية والمجموعات التي تمثلها ](3) و (4)[.

من يمثل عرب 48؟
الإجابة البديهية هي أن عرب 48 قادرون الآن بالفعل على تمثيل أنفسهم، ومن منطلق وضعهم "كمواطنين إسرائيليين"، فلهم دور فعال وأساسي في الوصول لحل عادل للصراع. ورغم أن إسرائيل تفاخر بكونها دولة "ديمقراطية"، فإن قوانين الهجرة والجنسية الموجودة بها الآن تكرس وضعها كدولة "عنصرية دينية" تعطي لليهود في كافة أنحاء العالم أفضلية في حق الهجرة لإسرائيل والتجنس بجنسيتها، مما لا يتماشى مع القوانين الأوربية مثلاً، ويتعارض مع الاتفاقيات الدولية الخاصة بمكافحة التمييز العنصري ومبادئ إعلان حقوق الإنسان. وليس من المستحيل أن يستطيع عرب 48 مع وجود الدعم المناسب، أن يحتكموا لأدوات الشرعية الدولية بحيث يتم في المستقبل غير البعيد "توفيق أوضاع" القانون الإسرائيلي، ليعطي حقوقاً متساوية للمواطنين الإسرائيليين بصرف النظر عن انتمائهم الديني أو العرقي، وكذلك "توفيق أوضاع" قانون الهجرة الإسرائيلي.

تأجيل التفاوض على حق العودة
ومع نزع فتيل الصراع، فإن التطور الطبيعي للأشياء سوف يضع إسرائيل أمام مفترق طرق، إما أن تصبح دولة ديمقراطية علمانية، أو تستمر كدولة "يهودية" يشوبها العنصرية، وأتصور أن الشعب الإسرائيلي نفسه، ونتيجة لأسباب داخلية ودولية، واعتبارات سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة، سوف يستقر على الخيار الأول – العلماني – مما سوف يكون في صالح عرب 48 وأيضاً في صالح اللاجئين الفلسطينيين من المجموعة (2). وهنا تظهر فكرة جديدة وإن كانت مؤلمة، وهو أنه يجب التريث قبل حسم مشكلة اللاجئين، وربما يجب تأجيل التفاوض في هذه القضية بالذات لفترة من 15 – 25 عاماً حتى تعطي النتائج المرجوة، وحتى لا يضيع حق اللاجئين في العودة والتعويضات المناسبة.
البديل الآخر، هو أن يقبل الفسلطينيون بحق عودة مؤجل لمدة 50 عاماً مثلاً. بمعنى أن إسرائيل توافق على حق عودة اللاجئين، ولكن اللاحئين أو أبناءهم لايصبح من حقهم العودة إلا بعد 50 عاماً. وفي النهاية هذا حل وسط، يعيد الحقوق لأصحابها، ولكنه يؤجل استحقاقها.

من يمثل اللاجئين الفلسطينيين؟
لابد من قيام منظمة أهلية في إحدى الدول الأوروبية، ذات فروع في الدول العربية والولايات المتحدة وكندا وأوروبا واستراليا Australasia، لتمثل بصورة مؤقتة مصالح اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في تلك الدول، وتطالب بصورة سلمية، وباستخدام كل أدوات العدالة الدولية وبالتعاون مع حكومات الدول العربية والصديقة، بحق العودة والمواطنة، واستعادة الأراضي والممتلكات المسلوبة، وبالتعويضات المادية المناسبة عن الأضرار المادية والأدبية الناشئة عن تشريدهم ومعاناتهم الطويلة. وقد يكون من المناسب أن يتم التعاون بين هذه المنظمة ومنظمات حقوقية إسرائيلية ويهودية، بحيث تتضامن هذا المؤسسات جميعاً في مخاطبة الرأي العام العالمي وأدوات العدالة الدولية (مثل محكمة العدل الدولية والأمم المتحدة). وقد يقول البعض، أن منظمة التحرير الفلسطينية تقوم منذ عقود طويلة بهذا الدور، وهذا صحيح، ولكن في تصوري، لقد وصلت المنظمة لمفترق طرق وعليها أن تأخذ القرار، إما الاستمرار كمنظمة تمثل الفلسطينيين بعيداً عن السلطة، وإما أن تنغمس في السلطة وتتداخل معها فتخضع لاعتبارات سياسية وضغوط دولية، قد تعوق حرية حركتها على المدى الطويل.

التحكيم الدولي عند الاختلاف
من المهم الوصول بسرعة لاتفاق مبادئ Framework Agreement بين السلطة الفلسطينية المنتخبة وبين الحكومة الإسرائيلية – يجسد مبادئ خارطة الطريق تحت إشراف الولايات المتحدة الأمريكية وبحضور مصري أردني. وإذا استطاع الفلسطينيون نزع الفتيل من مشكلة اللاجئين بالأسلوب المقترح هنا أو بأي أسلوب آخر، فسوف يكون من السهل الاتفاق على النقاط الأخرى بما فيها وضع مدينة القدس، والمستوطنات والجدار العازل. ومن المهم أن توجد آلية تحكيم يلتزم بها الطرفان عند حدوث اختلاف في التفاسير أو التفاصيل أو عند التطبيق، مثلما فعلت مصر في قضية طابا، لأن التحكيم الدولي سوف يكون عادة في صالح الفلسطينيين لأنهم أصحاب الحق الشرعي والتاريخي. وبالطبع فإن إسرائيل لن توافق بسهولة على اللجوء للتحكيم الدولي في أية قضية لنفس الأسباب، وهنا يجب حشد الرأي العام العالمي حول هذه النقطة.

المكاسب الصغـيرة مقابل "كل شيء أو لا شيء"
خلال المراحل الرومانسية في "إدارة" الصراع العربي الصهيوني عانى العرب، لفترة طويلة من أسلوب "كل شيء أو لا شيء". والآن، قد يقول البعض، لماذا يجب على الفلسطينيين أن يقنعوا بمكاسب صغيرة، ويتنازلون عن حقوقهم التاريخية مثل حق العودة؟ وهنا يجب أن نوضح شيئاً هاماً، إن قبول المكاسب الصغيرة لا يعني التخلي عن الحقوق الأخرى. فإذا كان أحد الأشخاص مديناً لك بمائة جنيه، وتعثر في السداد وماطل طويلاً، ثم أتى يوماً ما وعرض عليك أن يعطيك عشرة جنيهات وتنسى الموضوع، فأماك عدة بدائل: إما أن ترفض، أو أن تقبل، أو أن تقبل العشرة جنيهات شاكراً وتعطيه إيصال مخالصة بعشرة جنيهات مع التأكيد أنك تنتظر باقي المبلغ كاملاً مع الفوائد والتعويضات في المستقبل القريب. في حالتنا هذه، يحصل الفلسطينيون في الأراضي المحتلة على حق إقامة الدولة، ويشيرون أن هناك حقوقاً أخرى لجماعات أخرى يجب التفاوض عليها مع تلك الجماعات لتسويتها.

الرفض السلمي كبديل عن العنف
السيطرة الأمنية – أو انعدامها – في الأراضي المحتلة تمثل مشكلة ضخمة وعقبة في طريق السلام. وفي نفس الوقت، فلابد أن تظل الخيارات مفتوحة لجماعات غير رسمية للضغط السلمي ورفض ما تراه في غير صالح القضية من وجهة نظرها، ولكن يجب أن تتحول المقاومة الفلسطينية لمرحلة جديدة وذكية، يمارس فيها الفلسطينيون الرفض عبر وسائل ضغط سلمية، باستغلال الرأي العام العالمي لصالحهم لسبب رئيسي، وهو أن القوة في يد إسرائيل والحق مع الفلسطينيين، وبالتالي فإن استخدام منطق القوة مع إسرائيل في المرحلة الحالية لن يؤتي ثماره، بل يجب أن تختار المقاومة الفلسطينية نوع المعركة وتوقيتها وأسلحتها، وقد جرب الفلسطينيون النتائج الباهرة للرفض السلمي – أو شبه السلمي – أثناء الانتفاضة الأولى، فقد تعاطف العالم مع القضية لتصبح في بؤرة الاهتمام العالمي، مما أدى في النهاية لاتفاقية أوسلو. أما الانفلات الأمني الموجود حالياً، فهو ليس في صالح القضية الفلسطينية بل إنه يهدد مستقبلها بصورة مفزعة. ولا نود التدخل في الشأن الداخلي الفلسطيني باقتراح ضرورة نزع أسلحة الفصائل المختلفة للمقاومة بصورة تدريجية، لأن هذه هي أصعب مهمة تنتظر الرئيس المنتخب، ألا وهي مهمة تنظيم البيت الفلسطيني من الداخل، بما في ذلك تنمية المؤسسات ومكافحة الفساد وعلاج التشوهات الإدارية في بنية السلطة.

In Pursuit of Power

في سبيل التاج

من أجل عدة سنوات أو عدة أيام أو دقائق إضافية على سدة الحكم، دمر نظام الحكم المصري الحياة السياسة المصرية. على مدى ربع قرن من حكمه المرير، انشغل النظام بتزوير الانتخابات والاستفتاءات ومحاربة أحزاب المعارضة الجديدة وتجميد القديمة، تكسيح وتنويم الأحزاب القائمة، ودعم النائمة المتوائمة معه والمشغولة جداً بتفسير الأحلام وقراءة الكف وتبخير ورقي القادة المغاوير الذين لا بديل عنهم ويخشى من غيابهم على الأمة - الأمة العبرية – حتى قال رئيس أحد تلك الأحزاب وواحد من أهم الكومبارس في انتخابات الرئاسة – إذا فزت لا قدر الله فسوف أتنازل عن مقعد الرئاسة للرئيس. وكأن مقعد الرئاسة هو دكة رئيس الخفراء في شونة بنك التسليف أو مقعد في قطار كوبري الليمون أو كرسي في قهوة كتكوت.

المعارضة تلعب حول المواسير والحاكم يمسك بكل المحابس
خلال العام الماضي، قام النظام بجهد خارق تكلف المليارات وانشغل في تنفيذه مئات الآلاف من موظفي الدولة التي بدأت في عملية جديدة ومثيرة، انتخابات حرة ونزيهة وشفافة بإشراف القضاء في كل مراحلها بشرط واحد، أن تأتي بالنتائج التي رسمها النظام. سمح النظام للمعارضة باللعب بجوار المواسير ولكن النظام الخبيث قرر أن يتحكم في جميع المحابس. هذه هي ديمقراطية النظام. ديمقراطية المواسير. أما المحابس فتخضع كلها للتوجيهات المسبقة والتعليمات اللاحقة التي تهبط على القضاة كالقضاء والقدر بالمحمول. هناك بعض الماء الذي يتسرب من المحابس فيختلط بالتراب وتلهو المعارضة باللعب في الطين ثم تهيله على رأسها وتلطم عندما تنتهي المسرحية بالنهاية المعدة سلفاً.

من أجل عدة أيام إضافية في مقاعد الحكم، كلف النظام زبانية البوليس السياسي بتعقب أحزاب المعارضة وشقها بزرع العملاء وابتزاز قياداتها وتجنيدهم للعمل كمرشدين للأمن. وبدلاً من أن يقوم النظام بالعمل على تقوية الأحزاب المدنية انشغل بتلفيق التهم الكيدية لرموز المعارضة واجتهد في إسقاطهم والإساءة إليهم. اجتهد النظام في منع المعارضة من التوسع بتهديد أصحاب العمارات والشقق بعدم تأجيرها كمقرات لأحزاب المعارضة، وتهديد المعلنين في صحف المعارضة، مثلما حدث مع أحد المعلنين من أصحاب مصانع السيراميك بعد قيامه بوضع إعلان في صحيفة الغد قيمته عدة آلاف من الجنيهات، اضطر بعد التوبيخ والتهديد أن ينشر عدة إعلانات في الصحف القومية قيمتها مئات الآلاف من الجنيهات ينفي فيها وينكر ويتبرأ من وضع إعلان في صحيفة الغد المعارضة. ولا ننسى اختطاف الصحفيين المعارضين والاعتداء عليهم بالضرب واستخدام تجمعات من البلطجية لمهاجمة مسيرات ومؤتمرات المعارضة والأمثلة كثيرة في بيراميزا وكفر صقر وأمام نقابة الصحفيين وضريح سعد. بدلاً من أن تشجع الحكومة صعود قيادات شابة معارضة لديها الجرأة والقدرة على المنافسة وجذب الجماهير حول أحزاب مدنية، بذلت الحكومة كل جهودها في التشهير بتلك القيادات، وتلفيق التهم لها، وإنهاكها 24 ساعة في اليوم حول مختلف أقسام الشرطة والنيابات لاستجوابهم في تهم عبثية مثل سب الحزب الوطني بينما تقوم قوات الأمن بحماية البلطجية ذوي السيوف المشرعة وتكفل الدولة الحصانة لمسئولي الزراعات المسرطنة.

نجاح العملية بنجاة الطبيب رغم وفاة الجنين والأم
كل هذا الجهد الخارق كان الهدف منه اصطناع "عملية" ديمقراطية وفي نفس الوقت التحكم في نتائجها بالحفاظ على الوضع القائم دون أي تغيير. أي نجاح "العملية" بنجاة الطبيب - رغم وفاة الجنين والأم. كان الهدف هو التلاعب في إرادة الشعب بوسائل حديثة غير مباشرة، وبدلاً من التزوير المباشر قرر النظام أن يحصل على مبتغاه في بقاء الأوضاع على ما هي عليه من خلال اغتيال المعارضة وتفتيتها واتهامها بالعمالة والخيانة ثم اختيار مرشحي الحزب الوطني الذين يتمتعون بالقدرة على شراء الأصوات وتأجير البلطجية. ولكن في النهاية ورغم الجهد الخارق الذي تفرغ له آلاف من ضباط البوليس السياسي فشل النظام في الحصول على الأغلبية وسقطت رموزه سقوطاً مدوياً وكانت فضيحة بجلاجل. وفي النهاية اضطر النظام للتدخل المباشر والضغط على القضاة لتغيير نتائج الانتخابات في معظم الدوائر بدءاً بباب الشعرية مروراً بدمنهور وباقي الدوائر التي عانت من مهازل شهد بها القضاة ومنظمات المجتمع المدني وبعض عدسات الإعلام التي نجت من محاولات التحطيم والمصادرة. مصر هي الدولة الوحيدة في العالم التي يقوم فيها حزب الحاكم بخوض الانتخابات بتسمية 444 مرشح أصلي و4440 مرشح احتياطي "مستقل" بينما تقوم المعارضة بتسمية 500 مرشح! وعندما يقوم الشعب بإسقاط حزب الحاكم، لا يستقيل الحاكم، ولا يترك الحكم، بل يستقيل المستقلون من صفتهم المستقلة وينضمون لتجمع المصالح المسمى بحزب الحاكم. مصر هي البلد الوحيدة التي يبلغ فيها طول دكة الاحتياطي السياسي عشرات الكيلومترات.

قصور بدون مرايا
أحياناً أسأل نفسي: هل لا زال النظام يدعي أنه يتمتع بالأغلبية؟ إذا قمنا بمقابلة ألف مواطن وتوجيه سؤال بسيط وبعيد عن السياسة مثل: "هل تحب الحزب الوطني؟" كم مواطن سيجيب بالموافقة؟ خمسة مواطنين؟ سبعة؟ تسعة من ألف؟ هل يعقل أن يستمر النظام في الحكم "بأغلبية ساحقة" سبعة في الألف؟ أليس لديهم مخابرات أو مباحث أو كرة بللورية تخبرهم بأن رموزهم مكروهة والشعب يتوق للتخلص منها؟ كيف يستمرون في الحكم وهم يعلمون مدى كراهية الشعب لهم ورغبته العارمة في الإطاحة بهم؟ كيف يستيقظون كل يوم صباحاً ويواجهون أنفسهم ووجوههم في المرآة ثم يستمرون في الحكم بعد أن ينظروا في المرآة. بالطبع لابد من استخدام المرآة لحلاقة الذقن وتسريح الشعر وصبغه. ثم توصلت لاكتشاف عظيم يشرح سر بقاء النظام في الحكم. النظام لا ينظر في المرآة. هناك الحلاقون والسريحة ورؤساء التحرير ومسئولي التبرير وكلهم متخصص في مختلف فنون تجميل وجه النظام بحيث لا يضطر رموز النظام للنظر في المرآة أو رؤية الحقيقة أبداً. النظام لا يرى التجاعيد. ولا يرى السيوف. ولا يرى التزوير. النظام يرى التجاعيد مساحيق ملساء. والتزوير تجاوزات بسيطة لا تؤثر في نزاهة العملية الانتخابية. والسيوف يراها سيوف بلاستيك كده وكده، أما قيام مرشحي النظام بإنفاق المليارات في شراء الأصوات بإشراف أمن الدولة فالنظام يرى هذا لعبة بنك السعادة وليس هناك أكثر سعادة من النظام لأن اللعبة تنتهي بعدد لا بأس به من مقاعد الأصلي ومثلهم من المستقلين الاحتياطي. ويسعد النظام أنه احتال على الشعب وخدع العالم أجمع بمسرحية الديمقراطية بينما حصل في النهاية على بضعة أيام إضافية في الحكم. النظام لا يرى وجهه أبداً. قصور النظام لابد أنها تخلو من المرايا. ومكان كل مرآة تجد صورة في إطار فخم. إطارات بها صور قديمة لوجوه شابة وأحياء نظيفة وحكومة حقيقية. هذا هو سر بقاء النظام. الصور مكان المرايا. الوهم مكان الحقيقة.

محصلة كل الشرور
نتيجة الانتخابات الماضية هي محصلة كل شرور وآثام الحزب الوطني. الانتخابات مثل الامتحان، تتحدد نتيجته طوال العام، كمحصلة للاجتهاد والتحصيل. الانتخابات لم تتحدد نتيجتها فقط أثناء جولات البلطجة وتزوير النتائج أو شراء الأصوات، بل تحددت أثناء إصرار النظام على التلاعب في كشوف الناخبين وقيد آلاف الموظفين على شقق وهمية تابعة لبعض الوزارات، أو تهديد أنصار المعارضة ومنعهم من الخروج من بيوتهم، أو بث الشائعات الكاذبة حول زعماء المعارضة وجرجرتهم في المحاكم والأقسام بتهم كيدية. نتيجة الانتخابات تحددت عندما احتكر الحزب الوطني المقرات ومئات الملايين من التمويل لحزبه وعشرات الصحف والقنوات في إعلام مزيف ومضلل. واليوم، وبعد ثلاثين عاماً من التعددية الحزبية على يد الحزب الوطني، لابد أن نجلس ونسأل أين هي الأحزاب؟ هل يعقل أن هذا تقصير من كل الأحزاب ومن كل المصريين وأن الحزب الوطني المسئول عن الحكم طوال هذه الفترة هو البريء من تهمة التآمر ضد الأحزاب والتجسس عليها وإضعافها بشتى الطرق؟

سقوط النظام في امتحان الانتخابات لم يتضح فقط من خلال سقوط رموزه، بل اتضح من خلال اختفاء المعارضة المدنية من النتائج. إن ضعف المعارضة هو دليل ونتيجة مباشرة لكل جرائم الحزب "الوطني" في حق هذا الوطن. هو دليل على الشر والأنانية التي يعاني منها النظام. النظام لا يهمه أن تسقط مصر في مستنقع الطائفية أو تنفرد "التيارات الدينية" بالساحة السياسية. المهم هو أن نحافظ على الكرسي الكبير لأطول فترة ممكنة وقد نستطيع تأمين كرسي الباشا الصغير أيضاً. وتولع البلد باللي فيها.

من يقف وراء النظام
النظام اليوم لا يمثل الشعب. ولا يمثل المؤسسة العسكرية. ولا يمثل رجال الأعمال. ولا يمثل الموظفين. ولا يمثل العمال أو الفلاحين. النظام اليوم يمثل نفسه وشخوصه فقط. يحمي مصالحه هو فقط. النظام اليوم تحول من أداة لخدمة الشعب والوطن، وأصبح جسماً سرطانياً يمتص كل موارد الوطن ويسخرها لصالح هدف واحد: بقاؤه هو في الحكم. وفي سبيل ذلك يعود السفراء إرضاء للخارج ويستمر الوزراء المكروهين من الشعب خوفاً من سطوتهم. تبرم المعاهدات وتخصص الأراضي والإقطاعيات والاحتكارات ويترك الفاسدون لينهبوا موارد البلاد لأنهم أركان النظام وأعمدته التي يقوم عليها. تتضخم حشود الأمن المركزي المكلف بحماية النظام وتتضخم أجهزة البوليس السياسي، ويتضخم الإنفاق على أمن النظام وعلى تزييف الإعلام، بينما يتدهور الأمن العام والوعي العام ولا حول للشرطة أمام البلطجة والإجرام والإرهاب، ولا حول للمواطن المصري أمام النصب السياسي بشعارات براقة مبهمة.

متى تحين ساعة الحساب
عندما وعد النظام بانتخابات نزيهة "هذه المرة" فقد اعترف ضمناً بتزوير عشرات الانتخابات والاستفتاءات. ولكننا لم نسمع عن النائب العام وقد قدم المسئولين عن هذا التزوير المستمر للمحاكمة. عندما اعترف النظام في مايو 2005 بأن مصر في سبيلها للتحول من نظام الحزب الواحد لنظام التعددية الحزبية، رغم مرور 30 عاماً على ذلك فقد اعترف بمخالفة الدستور لعقود طويلة. ولكننا لم نسمع عن مسئول أو غير مسئول يقدم للمحاكمة بتهمة خداع الشعب وتبديد موارده في مسرحية كاذبة. عندما حكم القضاء بشطب مئات آلاف الناخبين في دوائر السيدة زينب وباب الشعرية والمعهد الفني وهم ناخبون مسجلون على عناوين مصالح حكومية وهمية، لم نر من يحرك الدعوى الجنائية ضد السادة الوزراء المسئولين عن هذه الجرائم السياسية. عندما رفضت الحكومة تنفيذ أحكام القضاء، لم نر من يقدم الحكومة للمحاكمة. عندما فضحت عدسات الإعلام البلطجية ورأينا حشود الأمن تحميهم وتفسح لهم الطريق، لم نسمع عن أحد يسائل وزير الداخلية أو مدير الأمن أو حتى مأمور القسم! عندما انغمس مرشحي الحزب الوطني الأصلي والاحتياطي في شراء الأصوات بفجاجة رفعت الإنفاق الانتخابي من 70 ألف جنيهاً للمرشح حسب القانون إلى 15 مليون جنيهاً في بعض الدوائر تحت سمع وبصر وإشراف ضباط البوليس السياسي على تلك الجرائم الانتخابية التي تفسد الحياة السياسية لعقود طويلة قادمة، لم نسمع عن مرشح واحد من مرشحي الوطني تم تقديمه للنيابة العامة. لماذا تقتصر جرائم شراء الأصوات على مرشحي الوطني والمستقلين من احتياطي الوطني؟ هل لأنهم وحدهم حريصون على خدمة الجماهير أم لأنهم يعدون العدة للتربح من وراء الحصانة والتأشيرات والأراضي والامتيازات؟ لماذا تقترن كل تلك الجرائم بالحزب الوطني وتكاد تقتصر عليه ومع ذلك لا نسمع عن محاكمات أو عقاب أو حتى اعتذار أجوف رخيص؟

في سبيل التاج، من أجل الاحتفاظ بالمقعد لأيام قليلة إضافية، ضحى النظام بحاضر ومستقبل هذه الأمة. في سبيل التاج سقطت كل القيم والمثل العليا أمام شبق لا ينتهي للسلطة واحتكار الحكم. وفي النهاية، أصبح التاج مجرد قطعة صفيح لا قيمة لها بعد أن تدهورت أحوال الوطن - الذي يمثله التاج - في سبيل التاج.

El Ghad Paper Standoff

كان من المفترض أن يصدر العدد الأول لجريدة "الغد" يوم الأربعاء 9 فبراير 2005، برئاسة تحرير الأستاذ إبراهيم عيسى، الذي تطوع بالعمل هو وفريقه بدون أجر في رئاسة التحرير لحين أن نتدبر الموارد المالية لإصدار الجريدة. كان أيمن نور في السجن منذ رفع الحصانة عنه قبل عشرة أيام، وبالتحديد يوم 29 يناير 2005.


وقضيت مساء الاثنين 7 فبراير كله في إحدى مكاتب فصل الألوان في "دوحة ماسبيرو" بميدان الشهيد عبد المنعم رياض، حتى الساعات الأولى من صباح الثلاثاء 8 فبراير، مع إبراهيم عيسى وفريقه، للعمل على وضع اللمسات الأخيرة في العدد الأول من جريدة الغد، وهو العدد الذي تحالفت السلطة على منعه من الصدور بالضغط على قيادات داخل حزب الغد وإعادة قيادات أخرى من الخارج لإجبارهم على إيقاف هذا العدد، والإطاحة برئيس التحرير، الأستاذ إبراهيم عيسى - من الجريدة. ويقال أن السبب في منع العدد هو أن المانشيت الرئيسي كان يحمل عبارة "حتى القردة في حديقة الحيوانات تعلم أن الاستفتاءات مزورة"، ولكنني أعتقد أن الموضوع كان أعمق من ذلك، فالحكومة لم ترغب أن يتحالف قلم إبراهيم عيسى الصحفي مع قدرات وشعبية أيمن نور السياسية، وشعرت أن مثل هذا التحالف قد يكون كفيلاً بإحداث "قفلة"، ومخاطر غير مقبولة بالنسبة لبقاء النظام. ففي ديسمبر 2004، وبمجرد أن انتشر خبر أن جريدة الغد ستصدر برئاسة تحرير "إبراهيم عيسى"، قامت الحكومة بإعادة السماح بإصدار جريدة "الدستور" التي كانت قد أوقفتها لمدة 7 سنوات! وكان الهدف الواضح هو إبعاد إبراهيم عيسى عن الغد.


....... ومقالي هذا - كان من المفترض أن ينشر في ذلك العدد - الذي لم ير النور أبداً.


المسرحية


عبر عقود طويلة، نعيش مسرحية عبثية مملة، تتكون من آلاف الفصول التي تتكرر كل يوم، دون أدنى أمل في نزول الستار إيذاناً بالنهاية. وهذه المسرحية تأتي تحت مسميات عديدة، مثل "أزهى عصور الديمقراطية" و"التعددية" و"التنمية"، وغيرها من الأسماء الهلامية، التي لا تجد لها في فصول المسرحية انعكاساً ولا صدى. وهي مسرحية من تأليف وتمثيل وإخراج شخص واحد هو الحزب الوطني، الذي يحاور نفسه طوال المسرحية، في مونولوج سخيف، لا يمتع ولا يضحك، ولا يغني ولا يسمن من جوع.

الفصل الأول من المسرحية هو فصل الإنجازات، الذي يتحدث عن تطور ضخم وتنمية يشهد لها الشرق والغرب، في عالم التصريحات والمليارات، المطعمة بما تيسر من إحصائيات، ومعظمها مضلل لا يصدقه الشعب، الذي عليه – رغم المسرحية - أن يعيش في العالم الحقيقي، وهو عالم لا وجود فيه للرخاء الحكومي، حيث الأسعار ترتفع بصورة مستمرة، بينما تعاني الأجور من الأنيميا الحادة، ويعاني الجنيه من البلاجرا المزمنة، بما يدفع الموظف المسكين إلى أن يمتهن أعمالاً أخرى، أو يطلب الإكراميات مقابل تأدية الخدمات وتمرير الاستثناءات، حتى صدرت فتوى شرعية بأن تقديم الرشوة حلال. الموسيقى التصويرية لهذا الفصل هي إحدى أغاني الإشادة، الذي تؤكد أن الشعب بكامل حريته قد اختار الحزب الوطني دون غيره، لحبه الشديد في الفقر وشظف العيش. خلفية المسرح عبارة عن لوحة ضخمة وردية، دون أي تفاصيل.

الفصل الثاني من المسرحية هو فصل الريادة والتفوق، والعالم الذي يشيد بنا في كل مناسبة وبدون مناسبة، بشهادة صحيفة فرنسية مجهولة تمتدح دوماً أداء الاقتصاد المصري. وتبحث عن تلك الصحيفة الفرنسية حتى تطمئن بنفسك على الأحوال، فتجد أنها صحيفة حائط في المدرسة التجارية الفرنسية بالظاهر. وبينما يشيد العالم بأدائنا المتميز، ولا ينام الليل من فرط حلاوتنا التي هي "زايدة حتة"، باعتبار أن الجريدة (الفرنسية) تصدر الساعة (ستة)، وبينما تحسدنا الصحيفة على الريادة التي لا مثيل لها، يصطدم الشعب بالواقع المرير، والأصفار التي نحصل عليها في كل مجال بجدارة وامتياز، حتى أصبحت تلك الأصفار مثل لعنة شريرة تطاردنا باعتبارنا من سلالة الفراعنة. وطوال هذا الفصل، تسطع أدلة الريادة في خلفية المسرح، التي تزدحم بمقتطفات من الصحف القومية التي تؤكد تفوقنا الملحوظ، بشهادة الخواجات الأجانب. والموسيقى التصويرية لهذا الفصل هي أغنية تتحدث عن فضائل الاستقرار، ومثالب التغيير الذي لا يعلم أحد ماذا يمكن أن يأتي من ورائه، من باب أن "اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش".

الفصل الثالث من المسرحية هو فصل "الاستثمار"، تبدأه حكومة الحزب الوطني بالتغزل في المستثمر، وغوايته بالامتيازات والإعفاءات والوعود لجلب أمواله. وما أن يأتي المستثمر المسكين بأمواله، حتى تطالبه الحكومة بقائمة من المستندات والتراخيص والتصاريح والموافقات، فيجتهد المستثمر في الحصول عليها إعلاء للشرعية وسيادة القانون، ويصطدم أثناء ذلك بالأدراج المفتوحة ونصف المفتوحة، والقرارات العشوائية المتلاحقة، وعدم سداد مستحقاته إن كان مورداً للحكومة، ثم ينتهي الفصل بالملاحقة البوليسية عندما يتعثر المستثمر المسكين ويصيبه الإفلاس، فيسجن أو يهرب خارج البلاد، وينتهي الفصل بخلفية ضخمة، تزينها أسماء المستثمرين بعد وضعهم على قوائم ترقب الوصول، والموسيقى التصويرية تنقلب من موسيقى رومانسية حالمة في البداية، إلى موسيقى رعب، ثم تنتهي بأصوات سارينة سيارات الشرطة، وصوت لطم وشق الهدوم، ونواح المستثمر وأسرته لحظة القبض عليه.

وهناك المزيد من الفصول مثل فصل الرعاية الاجتماعية، وهو فصل فعلاً لأنه ينتهي بنهب أموال التأمينات، وفصل انتشار الخدمات الصحية، الذي ينتهي بوفاة المريض بسبب عدم توفر الدواء، وفصل التنمية البشرية وتميز التعليم الحكومي الذي ينتهي بفاصل من التلقين في أحد الدروس الخصوصية، ثم مشهد لشباب يجلس على الرصيف نتيجة للبطالة المتفشية والمحسوبية في التعيين. أما الفساد والبيروقراطية، فلا يوجد لأي منهما فصل خاص، لأنهما يتجولان في أرجاء المسرح جيئة وذهاباً طوال الوقت وأثناء كل الفصول، ثم ينزلان من على خشبة المسرح، ليقوما بتقليب المشاهدين المساكين وشق جيوبهم بالأمواس والمشارط علناً، ويضحك المشاهدون باعتبار أن هذا هو جزء من المسرحية، رغم تأكدهم من استحالة عودة أموالهم إليهم، ويتذكرون فصل توظيف الأموال اللطيف، الذي انتهى بتوزيع "الحلل" البلاستيك على المشاهدين تعويضاً لهم عن مدخراتهم، بينما ازدانت الخلفية بأسماء كبار المسئولين فيما عرف بكشوف البركة.

وأثناء فصول المسرحية، ولأن الموضوع تمثيل في تمثيل، تتظاهر الحكومة بتقديم الخدمات للشعب، من تعليم وصحة وأمن وعدل ومرافق، وتعد الشعب بتوظيف أبنائه، وتمنح موظفيها المرتبات والعلاوات. تتظاهر الحكومة بذلك، وفي المقابل، وبعد تمرس طويل، يتظاهر الشعب بأنه يسمع كلام الحكومة ويحترم قوانينها، ويمصمص شفتيه ويهز رأسه تصديقاً لتصريحاتها، وهو يعلم تمام العلم أن تلك التصريحات (فشنك)، وأن تلك القوانين واللوائح قد عفا عليها الزمن ولم تعد تصلح للتطبيق على أرض الواقع، لتستمر المعاناة الشديدة والنفاق الجماعي.

وعندما يتململ بعض المشاهدين ويعلو صوت الشعب بالشكوى، ويصاب البعض بنوبات التشنج العصبي والصرع، تلقي الحكومة على المشاهدين خطبة عصماء كتبها أحد الفطاحل من المبرراتية، فحواها أن المسرحية رائعة دون شك، وأن المؤلف قدير، والمخرج متمكن وعتيد في الفن، وأن السبب في فشل المسرحية في الواقع إنما يقع على جماهير الشعب من المشاهدين، الذين لا يفهمون الحكمة العظيمة والفلسفة الرفيعة التي تكمن وراء فصول المسرحية، ويتسببون بجهلهم في إفساد الحبكة الدرامية، وبكثرتهم وتوالدهم المستمر في استنفاد كل كراسي المسرح، رغم أن معظم صفوف المقاعد خالية ومحجوزة نظراً لدواعي الأمن، وبينما يتزاحم السواد الأعظم من الشعب وقوفاً في الممرات الخلفية الضيقة، يتنافس المحظوظون من محاسيب الحكومة على الجلوس في الصفوف الأخيرة بعد سداد "المعلوم" للمسئولين عن تخصيص المقاعد، وهؤلاء المسئولون يعملون بالطبع لحساب حكومة الحزب الوطني الرشيدة.

ومشاهدة هذه المسرحية ليست بالأمر الاختياري، بل إنها إجبارية، لأن كل المسارح الموجودة في البلاد تعرض نفس المسرحية، وإن اختلف ترتيب الفصول. ويتساءل الشعب عن موعد انتهاء المسرحية وإسدال الستار، فتطمئنه السلطة بأن هناك مسرحية جديدة قادمة في الطريق، تحت اسم "مرحلة جديدة"، أو "صحوة كبرى"، أو "فكر عصري"، وغيرها من اللافتات والأفيشات. وينتظر الشعب على مضض، ولكنه يُصدم عندما تبدأ أي من تلك المسرحيات "الجديدة"، عندما يكتشف أن الممثل واحد مهما تلون وجهه بالأصباغ والأحبار، والمضمون مكرر ممجوج، وإن اختلفت ألفاظ الحوار.

كيف نتخلص من الحصار المفروض علينا من قبل تلك المسرحية التي لا تنتهي؟ هل يمكن أن نخرج من المسرح لنتنفس هواءً نقياً لا يلوثه فساد أو احتكار أو نفاق؟ وفي نفس الوقت، كيف يتوقع المشاهدون أن تنتهي المسرحية بينما هم يصفقون في نهاية كل فصل؟ ورغم أن الشعب يصفق استعجالاً لانتهاء المسرحية، إلا أن الحزب الوطني يأخذ هذا كعلامة أكيدة تدل على أن الشعب سعيد جداً بالمسرحية ولا يطيق انتهاءها، فتصدح أصوات الجوقة بأغاني التجديد والمبايعة. ألم يحن الوقت حتى يطالب الشعب الحزب الوطني بالنزول من على خشبة المسرح ويمنح فرقته التمثيلية أجازة بدون مرتب – أو بمرتب – بشرط أن يستمتع بالراحة بعد احتكار الأداء لعقود طويلة؟

متى نرى اليوم الذي يتقاعد فيه الحزب الوطني ويترك خشبة المسرح؟

أو على الأقل، متى يكتفي الحزب الوطني بمسرح واحد، ويترك باقي المسارح للفرق الأخرى؟

3G Economic Reforms

تمصير الحوار
مع
وزير الاستثمار

بعد الاستئذان، دخل مساعد الوزير يحمل مجموعة من التقارير ووضعها أمام الوزير. قطب الوزير حاجبيه، وطلب من المساعد أن يتركه ليتفحصها. دفن الوزير رأسه بين راحتيه وتنهد. وفجأة بدأ الوزير يكلم نفسه بصوت مسموع: "ماذا يريدون؟ هل يحاولون تخريب الإصلاح الاقتصادي؟ أما يكفينا الحروب الضارية من الحرس القديم داخل حزبنا حتى تأتي أحزاب وحركات المعارضة وتقف بدورها ضد الإصلاح؟" وتذكر الوزير رحلته إلى أمريكا في الشهر الماضي، وما لاقاه من متاعب بسبب ما ادعاه الأمريكيون من قمع الحكومة المصرية للمعارضين، سواء بالسجن في طره، أو الحصار في وسط البلد، أو تكسير العظام في كفر صقر! وفجأة قرر الوزير أن يفهم بنفسه لماذا تتصرف المعارضة بهذه الطريقة.

ارتدى الوزير ملابس بسيطة ونظارة قاتمة، وخرج من منزله متخفياً عن الحرس عبر السلم الخلفي للمبنى. اتجه الوزير لندوة بمقر أنشط أحزاب المعارضة، وجلس ينتظر بدء الحوار. جلس الوزير لما يقرب من ساعة كاملة في قاعة غير مكيفة تمتلئ بمئات من البشر في انتظار المحاضر، حتى كاد يشعر بالاختناق من رائحة العرق وتلامس الأجساد ولكنه قرر أن يتحمل ليفهم ما الذي يجعلهم ينتظرون والأهم، ما الذي يغري المعارضة "بتخريب" الإصلاح الاقتصادي. من حوله كان الحاضرون يتغلبون على ملل الانتظار بالخوض في أحاديث السياسة والاقتصاد، ويتندرون بقصص كوميدية لفساد كبار وصغار مسئولي الحكومة، وقصص درامية لمن وقعوا ضحايا للروتين والبيروقراطية وطول إجراءات التقاضي. العامل المشترك الوحيد بين القصص الكوميدية والدرامية كان دعاء لله يتكرر بانتظام "بأن يخرب العلي القدير بيت الحزب الحاكم ومن عليه ويأخذ رجاله أخذ عزيز مقتدر". سأل الوزير نفسه ... لماذا كل هذا الكره؟ ترى ماذا يفعلون بي إن اكتشفوا أنني من الحزب الوطني؟ وجالت في خاطره أهوال مرعبة من السحل والضرب وتكسير العظام، فتحسس النظارة القاتمة في حركة لا إرادية، وطمأن نفسه بأن الشعب المصري طيب ولا يميل للعنف وخاصة الطائفة الليبرالية التي يحضر اجتماعها.

وفجأة قرر الوزير أن يبدأ حواراً مع جاره وكان رجلاً في منتصف العمر تبدو عليه مخايل عز قديم. "ما رأيك في الإصلاحات الاقتصادية الجديدة؟" نظر إليه الرجل في ريبة ثم قال: "أي إصلاحات؟" تحمس الوزير وقال: "الجيل الثالث من الإصلاحات الاقتصادية" تضاعفت ريبة الرجل وفكر مليا ثم أشار بيده متضايقاً لنهاية القاعة وقال: "الأمن يجلس في نهاية القاعة من فضلك!" وعلى ذكر الأمن التفت كل الرءوس نحو الوزير في غضب فأسرع بنفي التهمة: "والله العظيم أنا موش أمن ولا حاجة" فرد شاب غاضب: "أمال إيه نظارة المخبرين اللي انت لابسها دي؟" خلع الوزير منظاره محاولاً تبرئة نفسه وفجأة صرخ الشاب: "يا نهار أسود ... ده ... ده وزير الاستثمار!" تراجع الجميع وكأن الوزير يحمل مرضاً معدياً حتى كونوا شبه دائرة حاصرت الوزير، فلتت أعصاب أحد الحاضرين وبدأ يقترب من الوزير وهو يصيح بعبارات غاضبة وقبل أن يفتك بالوزير انشقت الأرض عمن تبين فيما بعد أنه المحاضر المنتظر وأحد قيادات المعارضة، واتجه المحاضر رأساً للوزير لينتشله من وسط التجمع الغاضب وساقه نحو المنصة.

"نرحب بالسيد الدكتور وزير الاستثمار الذي يشرفنا في ندوة اليوم." قالها المحاضر في لهجة حاول بها أن تكون طبيعية قدر المستطاع ولكن الهمهمات كانت لا تزال تتردد في القاعة. "سيادة الوزير سوف يحدثنا عن ... ما هو موضوعنا اليوم سيادة الوزير؟" تنحنح الوزير واضطر أن يساير المحاضر ... "أود أن أتحدث عن الجـيل ... أعني عن الإصلاحات الضريبية والجمركية وأثرها في تشجيع الاستثمار!" بدأ الوزير يتحدث وأسهب في امتداح المناخ الجديد الذي سوف يعمل على جذب المستثمرين من الخارج والمليارات التي سوف تمطرها السماء علينا قريباً. وقبل أن يختتم كلامه تردد قليلاً ثم استجمع شجاعته وقال: "وللأمانة، يجب أن أذكر أن الاحتقان السياسي والمظاهرات التي نراها قد تزعزع الاستقرار، على الأقل في ذهن المستثمر الأجنبي، مما قد يؤدي إلى عدم الاستفادة المثلى من هذه الإصلاحات، كما أن المعارضة تضخم من بعض الأحداث أمام وكالات الأنباء العالمية مثل أحداث كفـر ... أعني أحداث نقابة الصحفيين وضريح سعد، بما يؤثر سلباً على صورتنا في الخارج ويصعب من مهمتنا في الحصول على المنح والقروض والاستثمارات، وهو ما يعوق النمو الاقتصادي ويضعف من قدرة الحكومة على مواجهة الـمعـ ... المعضلات الكبرى مثل الفقر والبطالة." لم يصفق أحد، حتى رجال الأمن المندسين لم يصفقوا طبعاً حتى لا ينفضح أمرهم. ولكن المحاضر صفق بعد ثوان قليلة، فتبعه جزء من الحضور، وابتسم الوزير ممتناً وجلس.

قام المحاضر الأصلي واستهل كلامه بالتأكيد على أهمية احترام تعدد الآراء ثم قال: "أشفق على وزير الاستثمار وعلى وزير التجارة والصناعة وعلى رئيس الوزراء وعلى كل من يحاول أن يخوض مسيرة للإصلاح الاقتصادي، دون أن يفهم أسباب الإفساد والركود الاقتصادي. سيادتك تظن أن الحل لأزمتنا الاقتصادية هو أن تستكين المعارضة وتستسلم لفتوات البلطجة دون أن تشكو أو تتذمر أو تطالب بتغيير الوضع السياسي الاحتكاري، حتى لا تفسد الجو على لقاءاتكم بالمسئولين الأمريكيين، الذين تظنون أن بيدهم حل مشكلاتنا الاقتصادية، وهنا تكمن مشكلتكم الحقيقية. لابد أنك تعلم أن المصريين قد ضخوا 80 مليار دولار خلال الفترة بين عامي 1991 و 1995 استخدم جزء كبير منها في الاستثمار الصناعي والتجاري والعقاري، لمجرد أنهم صدقوا وعود الحكومة بالإصلاح. نعم، خلال أربع سنوات، ضخ المصريون مليارات تزيد عن مجموع الاستثمار الأجنبي والمعونات التي حصلت عليها مصر عبر ربع قرن! الاستثمار يا عزيزي لن يبدأ إلا من المصريين. ولكن، كيف يستثمر المصريون مجدداً وهم يرون المستثمرين القدامى وقد أفلسوا أو دخلوا السجون بعد أن تعثروا أو اضطروا لمغادرة البلاد هاربين؟ كيف يستثمر المصريون وهم يرون الفساد يضرب أطنابه في الجهاز الإداري، ويعانون من القوانين واللوائح التي تمنع كل شيء، وفي نفس الوقت يأتي من يريهم الطريق الدائري الذي يسمح دائماً بكل شيء ويلتف حول كل القوانين بشرط ترطيب منقار كبار المسئولين أو إدخال أنجال الوزراء والحكام كشركاء في المشروع؟

أنت تريد مهلة نسكت فيها عن الإصلاح السياسي حتى تستكمل أنت ما تظنه إصلاحاً اقتصادياً، ولكن دعني أسألك، ألم تكن فترة 24 عاماً مهلة كافية؟ ما هو الضمان أننا إذا أجلنا الإصلاح السياسي سوف نحصل على الرخاء الذي ننتظره طبقاً لوعودكم لأكثر من ربع قرن. ربما تظن أن الدكتاتورية تسهل من السيطرة على الأمور عند تطبيق الإصلاح الاقتصادي، وربما تظن أن الظرف الآن يستدعي القبول "بالمستبد العادل" حتى ننهض بالاقتصاد، ولكن دعني أقول لك شيئاً: لا يمكن أن يكون المستبد عادلاً، لأن العدل يبدأ بالمساواة، والاستبداد يغتالها. دعني أكون أكثر صراحة، هل تعلم لماذا لن تثمر إصلاحاتكم؟ لأنها تأتي منكم. الشعب لم يختركم، ولا يحبكم، ولن يستجيب الشعب أو المستثمرون لأي دعوة تأتي منكم سواء لزيادة الإنتاج أم دفع الضرائب، أم تطوير البناء المؤسسي، أم الاستثمار في التنمية البشرية أو نظم المعلومات أو التسويق أو البحوث والتطوير أو غيرها من أولويات، ببساطة لأنكم فقدتم مصداقيتكم ولا شرعية لحكمكم. أنتم بالنسبة للشعب الآن مجموعة اغتصبت السلطة لمدة نصف قرن. استولت على الحكم بوضع اليد، وهي تريد الآن أن تقنن وضعها، وتكتسب شرعية لليد ووضعها. هل يمكن أن يستجيب أصحاب المزرعة لدعاوى اللصوص الغاصبين بزيادة إنتاج المحصول أو الحليب، مهما كانت تلك الدعاوى قائمة على أسس علمية أو تجارية؟

سيادتك غاضب لأن المعارضة شوهت صورتك أمام الأمريكان ببث صور الاعتداء على مصريين في كفر صقر وفي بيراميزا وفي عبد الخالق ثروت وعند ضريح سعد. أنت غاضب لأن الأمريكان الآن يعرفون مدى وحشية أساليبكم، ولكنك لست نادماً على استخدام مثل تلك الأساليب. لم تعتذر حكومتكم للضحايا أو المصابين، ولكنها اعتذرت للأمريكان! مشكلتك يا عزيزي أنك تظن أن الحلول لدى أمريكا، ولكنني أقول لك أن الحلول هنا، في مصر، لدى الشعب المصري الطيب الذي قد نسيتموه من طول تطلعكم للبيت الأبيض. المصريون هم الذين سوف يعملون وينتجون وهم الذين سوف يستهلكون ويدخرون ويستثمرون. المصريون بيدهم زيادة الناتج القومي، ولكنهم لن يفعلوا ذلك وأنتم في مقاعدكم. لابد أن ترحلوا أولاً.

المصريون سوف يحصلون على التكنولوجيا من الداخل والخارج وسوف يستثمرون في تحديث شركاتهم كما فعلوا على مدى 30 عاماً بعد وضع دستور 1923، حتى أصبحت بريطانيا مدينة لمصر وكانت قيمة الجنيه المصري أعلى من الإسترليني. ولكنهم سوف يفعلون ذلك بعد أن يحصلوا على الدستور الذي يضمن قدرتهم على إزاحتكم والإتيان بمن يريدون إلى الحكم. وعندما يحصل المصريون على القوانين العادلة المتسقة والتي تتماشى مع الطبيعة والواقع والعرف، عندما يشعرون بآثار انحسار الفساد وترسيخ الحكم الرشيد، سوف تزدهر شركاتهم، ويصدرون للعالم كله، فيأتي المستثمر الأجنبي مهرولاً بعد أن رأى نجاح أولاد البلد. أما أن تتصور أن زيارتك لأمريكا وتجميل الأمور وإنكار التصرفات القمعية سوف يأتي بمستثمرين أجانب، في الوقت الذي يعاني فيه المستثمرون من أصحاب البلد من التعثر والبيروقراطية والفساد وضياع الحقوق وتخبط السياسات، ويعاني المواطن العادي من الإذلال والقمع وفساد التشريعات وضياع العدالة والشعور بالغربة، إن كنت تتصور أن إخفاء القاذورات والتعفنات والتقيحات تحت البساط سوف يساعد على جذب المستثمرين، فهذا خداع ساذج وينم عن عدم فهم للأمور.

يا عزيزي، دعنا نمصر الحوار، فمشاكلنا هنا، وحلولنا هنا، والعالم كله سوف يساعدنا ويحترمنا، بشرط أن نحترم نحن أنفسنا ونحترم بعضنا البعض." انتهى كلام المحاضر. ونظر الجميع إلى الوزير. كاد الوزير أن يطلب التعقيب ليتحدث عن الأغلبية التي يتمتع بها الحزب الوطني، والشعب الذي يلتف كله حول المبايعة، ولكنه تردد في آخر لحظة وفضل الصمت. نظر الوزير في عيون الحاضرين فرأى انتظاراً ولهفة. أطرق الوزير وفكر قليلاً، وفجأة استجمع الوزير شجاعته، وفي لحظة صدق، أعلن الوزير استقالته من منصبه ومن الحزب الحاكم، ودوت القاعة بالتصفيق الحاد.


وائل نوارة


ملاحظة: هذه القصة خيالية ... بكل أسف.

My Page on Facebook

Wael Nawara on Facebook