Showing posts with label The Parallel State. Show all posts
Showing posts with label The Parallel State. Show all posts

Tuesday, January 11, 2011

Ending Religious Discrimination: A Cultural Perspective

القضاء على التمييز الديني

رؤية ثقافية

وائل نوارة


مقدمة

عبر الثلاثين عاماً الماضية، عانت مصر من حالة متنامية من الهوس الديني، اخترقت المجتمع بكافة شرائحه، بما يشبه الغزو الفيروسي الذي يقتحم جسداً ضعيف المناعة، فيصيبه بالحمى والهذيان ومختلف الأعراض المرضية. والمناعة هنا هي المناعة الحضارية والثقافية التي ضعفت بصورة شديدة، فأدت إلى استشراء الفيروس في جسد الأمة المصرية بصورة هددت عافيتها. وبالطبع فقد صاحب هذا الهوس الديني تصاعد في التمييز الديني، ومصادمات وحوداث متكررة تقف وراءها أسباب طائفية، أدت بدورها للمزيد من التقطب والتحزب الديني، وهكذا دواليك في حلقة مفرغة.



وبينما تنعقد الكثير من المؤتمرات لتناقش التغيرات المطلوبة في القوانين واللوائح، ينسى الكثيرون أن المشكلة في مصر ليست فقط مشكلة قوانين، بل أن القوانين هي أحد أعراض المشكلة، وربما تكون أقل أطراف المشكلة في حدتها. أما المشكلة الرئيسية في رأينا فهي مشكلة ثقافية وحضارية. ولابد هنا أن نعرف الثقافة culture ليس بمعنى الآداب والفنون، بل بمعنى طريقة الحياة، أو الحل الحضاري. ونعني هنا بالحل الحضاري Culture أو "طريقة الحياة" Way of Life ونعرف طريقة الحياة بأنها "مجموعة القيم والطبائع والسلوكيات والقناعات الفكرية والعادات والتقاليد ونظم التفاعل الاجتماعي التي تتبناها جماعة ما، باعتبارها تمثل الإجابة أو الحل الحضاري Solution لمشكلة البقاء".



المشكلة الرئيسية إذن لا تتعلق ببعض القوانين أو حتى مواد الدستور، بل هي تتعلق بتراجع الحل الحضاري المتجه للحداثة أمام حلول حضارية سلفية. بل أننا يمكن أن نقول أنه مع تراجع تبني المجتمع لقيم الحداثة والتطور، فإن التشريعات تسبق المجتمع ليس في مصر فحسب، بل في العديد من الدول العربية الأخرى، مثل تونس والمغرب. بمعنى آخر، فإن الرأي العام يميل للمحافظة أكثر من التشريعات التي قد تمررها النخب الحاكمة. المشكلة إذن في المجتمع، والحل هو في التنوير، وليس فقط في التشريع، بل أن التنوير يجعل التشريعات التي تكفل المساواة تأتي من الشعب، من أسفل إلى أعلى، بما يضمن جدية التطبيق وانتشاره على أرض الواقع.



والدليل على ذلك يظهر في تأييد القيادات الدينية الكنيسة الأرثوذكسية مثلاً للحزب الحاكم ورموزه، على الرغم مما قد يبدو على السطح أحياناً من خلافات، لكن تلك القيادات ترى أن النظام الموجود يكفل لها حقوقاً أفضل ويطرح مخاطر أقل من آخرين قد لا يرون في المسيحي مواطن كامل الحقوق، بل يرون أنه يمكن لأجنبي مسلم أن يتولى رئاسة الدولة بينما لا يصلح مسيحي مصري لذلك، رغم أننا نتحدث عن الدولة المصرية.



وبينما تؤيد القوى السياسية الليبرالية مثلاً إلغاء الخط الهمايوني وإقرار قانون موحد لبناء وصيانة دور العبادة، وإزالة خانة الديانة من بطاقة الهوية القومية، وحرية المعتقد والتحول الديني، وعدم التفرقة بين الأديان بحجة أن بعضها سماوي وبعضها غير سماوي، أو أن بعضها صحيح والآخر محرف، وغيرها من أطروحات غريبة في أمور هي في الأساس قائمة على الإيمان الشخصي، ولكن المحك الحقيقي يأتي على أرض الواقع: هل عند التطبيق سيستطيع أصحاب الديانات المختلفة بناء دور العبادة بنفس الدرجة من الحرية والمساواة، أم أن السلطات المحلية ستتفنن في وضع العراقيل أمام البعض وتسهيل الطريق أمام البعض الآخر، في محاكاة لرواية مزرعة الحيوانات "كل الحيوانات متساوية ولكن بعضها أكثر استواء من الآخر"! فالعبرة إذن ليست بالقوانين ولكن بالمناخ الثقافي السائد في المجتمع. مثال آخر، نحن نعلم أن عقوبة القتل والاعتداء معروفة ولا تحتاج لقوانين إضافية، لماذا إذن لم نر أحكاماً تصدر بحق مرتكبي حوادث العنف الطائفية على مدى ثلاثين عاماً، مع الاكتفاء بجلسات الصلح وتقبيل اللحى وغيرها من وسائل تضرب هيبة القانون في مقتل وتستحل دماء ضحايا جدد. فالقوانين موجودة ولكن التطبيق منعدم. ومن أخطر القيم التي تتسبب في فساد المناخ الثقافي تأتي الأحادية الفكرية، والإصرار على أن هناك وجه واحد للحقيقة المطلقة. ورغم أن مبدأ الشك قد دخل في الفكر الإنساني منذ مئات السنين في كتابات ديكارت وغيره من الفلاسفة، وجاء هذا المبدأ ليعكس فكرة أن للحقيقة أوجه متعددة وأن هناك العديد من الزوايا التي يمكن أن ننظر بها لنفس الموضوع، وجاءت التطورات العلمية ليطرح أينشتين مبادئ النسبية التي تجعل الأطوال والكتل والسرعات تختلف حسب مرجعية كل مراقب، ثم طرح هايزنبرج مبدأ عدم اليقين في تحديد مواضع وسرعات الجسيمات باعتباره مبدأ ثابت في فيزياء الكون Heisenberg Uncertainty Principle، إلا أن غسيل المخ الذي يحدث بصورة ممنهجة للطفل المسلم أو المسيحي منذ مراحل نموه الأولى، يتكفل بانتزاع أو تعطيل خلايا المخ المسئولة عن التفكير النقدي.



ومبدأ الشك وعدم اليقين في جانبه الإيجابي يشجع روح البحث العلمي والإبداع والتطوير الفكري الدائم، والقدرة على نقد الواقع بل ونقد الذات، والقدرة على تقبل الآخر والتعايش بين الأضداد، وفي جانبه السلبي فإن مبدأ الشك يزعزع العقيدة وهي الأرض الروحية التي يقف عليها الإنسان مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى التعاسة والاكتئاب، فالتوازن إذن هو ما ينبغي أن نسعى إليه. ولكن ما يهمنا هنا هو أن سيادة فكرة أحادية الحقيقة يعوق قدرة المجتمع على التطور ويتسبب في تجمده كما قد يؤدي إلى انتشار العنف ومعاقبة من يختلفون في الفكر مع المجموعة أو من قد يمثلها من حكام مما يهدد فكرة التعددية والديمقراطية والانتخاب الطبيعي للأصلح وهو ما يهدد أيضاً بقاء المجتمع ككل في وجه المجتمعات القادرة على تطوير نفسها داخلياً.



وقد يقترح البعض أن الطبيعة المصرية التي تميل إلى التدين والتمسك بالعقيدة هي التي تؤدي بالمصري إلى التمسك بالمطلق وعدم تقبل فكرة أن الحقيقة نسبية وأنها متعددة الأوجه، ولكننا نقول إنه لا يجب أن نخلق تعارضاً أو نوع من التضاد بين وحدانية العقيدة وما تفرضه من الإيمان المطلق بثوابت دينية وبين روح البحث العلمي والسعي إلى العمل والأخذ بأسباب القوة والنجاح وقبول فكرة أن الآخر له حق الاختلاف في الرأي أو الاقتناع بفكر معاكس أو اعتناق عقيدة مغايرة، كما أن اليقين والأحادية التي ترتبط بالدين، لا يجب أن تتوسع لتجور على الموضوعية والفكر النقدي والتحليلي في الأمور غير الدينية.



فالعقيدة هي اقتناع القلب ولا تحتاج أدلة مادية أو إثباتا منطقيا وبالتالي فليس هناك ما يمنع قبول فكرة أن كلاً منا قد تكون له عقيدته وحقيقته الشخصية المتفردة طالما لا يحاول فرضها على الآخرين وطالما جاءت قواعد الحوار المنطقي كأساس لإثبات الحقيقة الوضعية عند وجود الخلاف. وهناك مساحة شاسعة للاتفاق بين أصحاب العقائد الدينية المختلفة، بل وغيرهم ممن يؤمنون بمنظومة القيم الإنسانية ويلتزمون بالقوانين الوضعية، ولذلك المنطق يقول أن القاسم المشترك بين كل هؤلاء هي القيم العليا والمقاصد العامة والمبادئ المشتركة وليست الطقوس أو النصوص الحرفية. هنا تكون المرجعية في المنطق الطبيعي والقوانين الوضعية، بعيداً عن الثوابت الدينية التي قد يختلف عليها البعض، وبالتالي عند تنظيم المعاملات المدنية بين الأشخاص المختلفين يكون الأصل هو استخدام القانون الطبيعي وقواعد المنطق والاستنباط دون التقيد بمرجعيات دينية قد يُختلف عليها.



وفي نفس الوقت لا نستطيع أن نعفي النظم الاستبدادية بأنها تقف وراء تنامي نفوذ التيارات السلفية والمتطرفة، باستخدام الدين في السياسة للتخلص من تيارات معارضة حيناً، والعمل على رفض وتفتيت وتجميد ومحاصرة الأحزاب المدنية حيناً آخر، واستخدام التيارات المتطرفة كفزاعة لمنع التطور الديمقراطي، رغم أن تنامي قوة التيارات المتطرفة لم يحدث إلا في ظل غياب الديمقراطية، الذي أدى أيضاً لفشل هيكلي بنيوي مزمن للنظم التي قد يراها الشعب نظماً أقرب للعلمانية، وبالتالي يدفعه هذا الفشل إلى الاتجاه الآخر، اتجاه الدولة الدينية.
إن حق كل مواطن هو أن يعيش آمناً في بيته دون أن يعتدي عليه غيره بالفعل أو اللفظ، ولنا أن نضع أنفسنا مكان غير المسلمين الذين يتعين عليهم أحياناً أن يستمعوا عبر الميكروفونات لخطباء غاضبين لا هم لهم سوى تكفير أصحاب الديانات المغايرة والتحريض على كراهيتهم. وحق كل مواطن هو أن يتمتع أطفاله بخدمة تعليمية لا تمييز فيها، لكننا نجد أن وزارة التربية والتعليم قد تغلغلت فيها الجماعات السلفية والمتطرفة، حتى أصبح الحجاب فرضاً على كل تلميذة منذ عمر 8 أو 9 سنوات، ناهيك عن تدريس نصوص إسلامية في مناهج اللغة العربية سواء النحو أو القراءة، وعدم تدريس اللغة المصرية (القبطية) ولو حتى كمادة اختيارية. دعونا نتخيل أن الدولة أصدرت قوانين بتلافي هذا كله، كيف سيتم تطبيقها على أرض الواقع إذا كان القائمون على التطبيق من المروجين للفكر السلفي ويعدونه هو الطريق إلى الجنة؟



انهيار فكرة الوطن وتآكل الانتماء والمواطنة

المواطنة، ما هي إلا انتماء مواطن لوطن، يتمتع معه المواطن بوضع قانوني وسياسي ومزايا والتزامات اقتصادية واجتماعية وثقافية. فالمواطنة تعبر عن انتماء الأفراد للوطن بما يتضمنه ذلك من حقوق للأفراد، وواجبات ومسؤوليات تقع عليهم تجاه الوطن الذي ينتمون له.


وتشمل المواطنة الحقوق القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للمواطنين في الوطن الذي يحتضنهم، بما يضمن تمتع جميع المواطنين بالمساواة دون أن يقع على أي منهم أي نوع من أنواع التمييز القائم على الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الموقف الفكري.


العلاقة بين الوطن والمواطن

فالعلاقة بين الوطن والمواطن إذن تظهر على أكثر من محور:

·         قانوني: فهذه العلاقة لها شق قانوني يشبه التعاقد الضمني، يشمل الحقوق التي يتمتع بها المواطن والواجبات التي تقع عليه، ولعل الدستور هو الوثيقة الأساسية التي تجسد بنود هذا العقد الاجتماعي، وفي الناحية الأخرى يتعين على المواطن احترام القانون والخضوع له.
·         سياسي: أن يشارك المواطن في صنع القرار المجتمعي، وفي الناحية المقابلة يحترم المواطن السلطة السياسية ويلتزم بقراراتها طالما تمتعت تلك السلطة بالشرعية، وصولاً لأن يضع المواطن حياته على المحك رهناً لأمر السلطة السياسية في حالات الحرب والدفاع عن الوطن
·         ثقافي: هو مخزون تراكمي من القيم المشتركة والتراث التاريخي والحضاري، تتجسد في مجموعة ضخمة ومتشابكة من العادات والتقاليد والسلوكيات ونظم التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فالقيم المشتركة هي التي تشكل الضمير والعقل الجمعي للمواطنين، وهي التي تحدد بنيان وطبيعة نظم التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، التي ترسم طريقة الحياة أو "كتالوج الحياة" على أرض الوطن
·         اقتصادي: أن يستطيع الفرد نتيجة لهذا الانتماء أن يحصل على احتياجاته الأساسية، من خلال انخراطه في المنظومة الاقتصادية لهذا الوطن وتفاعله معها، وهذا هو مفهوم المواطنة الاقتصادية، ويرمز له البعض بالعدالة الاجتماعية، ومن الناحية الأخرى يلتزم المواطن بسداد الضرائب والرسوم التي تذهب لخزينة الدولة لتنفق منها على المرافق والخدمات الاجتماعية المشتركة
·         اجتماعي: أن يتمتع الفرد بالعلاقات الاجتماعية التي تربطه بهذا الوطن، من خلال علاقات قرابة وصداقة وزمالة وجيرة لمواطنين آخرين
·         معنوي أو نفسي: ونتيجة لكل ما سبق، يتولد لدى المواطن شعور بالانتماء للوطن، وهو شعور نفسي لدى الفرد بعضوية كيان اعتباري هو الوطن، والتضامن مع المواطنين الآخرين بناء على الاشتراك في التاريخ والمصير.


فالعوامل أو الروابط التي تتحكم في الانتماء لوطن لها شقان على الأقل، أحدهما يقع في الماضي بتراثه وذكرياته، والآخر يكمن في الموافقة الجماعية على العيش المشترك في الحاضر والمستقبل. ويمكن أن نقول أن الشق الأول الذي يقع في الماضي هو شق قدري لا يملك المواطن أن يتحكم فيه، ولكن الشق الثاني هو شق اختياري، لأننا قد نجد بعض المواطنين وقد عجزوا عن الحياة في الوطن، أو عجزت الحياة في ذلك الوطن عن أن توفر لهم احتياجاتهم الحياتية الأساسية، فيلجأون للانتساب لوطن آخر بصورة اختيارية عقلانية و – أو عاطفية.


تحلل وضعف الدولة الرسمية وصعود الدويلات الموازية




ويمكننا أن نتصور هذه العوامل أو الروابط، مثل الخيوط الدقيقة المغزولة معاً، والتي تتجمع لتكون حبل الانتماء. وعندما تتآكل تلك الخيوط واحداً بعد الآخر، يهترئ حبل الانتماء، حتى ينقطع أو يكاد.

فعندما يفقد المواطن حقوقه القانونية المكفولة له بموجب الدستور، أو تفتئت الدولة أو من يمثلها من موظفي العموم أو ضباط الشرطة على حريته أو كرامته كمواطن، أو يفتقد الشعور بالأمن، أو تتعطل منظومة العدالة، أو تغتال ممارسات الدولة والمجتمع أبسط قواعد المساواة وتكافؤ الفرص، أو يشعر "المواطن" أن رأيه لا يقدم ولا يؤخر، وأن صوته الانتخابي مهدر، وأن القرارات الاجتماعية تصدرها طبقة حاكمة بمعزل عنه، والأسوأ أنها لا تمثله ولا تراعي مصالحه، عندها، تنفصم بعض خيوط الانتماء.

وعندما يشعر المواطن بالاغتراب الثقافي، وبأن القيم الحاكمة في المجتمع، لا تتوافق مع قيمه الشخصية، بل وتتعارض معها في تضاد وتنافر، وأن منطق الحياة في المجتمع لم يعد يكافئ المجد أو الماهر أو الموهوب، بل أن المنافق والفاسد والممالئ للطبقة الحاكمة على حساب مصالح الوطن والمواطنين، هو الذي يتبوأ مقاليد الأمر والنهي ... عندئذ لابد وأن تتآكل خيوط أخرى.


وعندما تعجز قوانين ونظم الدولة التي تجسد مفهوم الوطن في الوفاء باحتياجاته الحياتية، من رعاية صحية، وخدمات تعليمية، وتأمين اجتماعي، وأمن وعدالة، فيضطر للجوء لقوانين ونظم بديلة في الدولة الموازية، يصبح فعلياً ولاؤه مزعزاً بين الدولة الرسمية والدولة الموازية. وقد يسأل سائل، أليست "الدولة الموازية" هي فكرة نظرية، بمعنى أنه لا توجد فعلياً دولة "رسمية" باسم الدولة الموازية، طبقاً لتعريف الدولة الموازية نفسها؟ فكيف ينتمي المواطن لدولة غير موجودة رسمياً؟

وهنا نرد بمثال بسيط، عندما يضعف أو يختفي دور الدولة في المجالات التي ذكرناها، وتأتي جماعة أو حزب أو جمعية أو شخص، ليقوم بتقديم هذه الخدمات بدلاً من الدولة الرسمية، فيفتتح عيادة طبية بأسعار رمزية في مسجد مثلاً أو كنيسة، كبديل عن الخدمات الطبية المنعدمة أو فاحشة التكلفة في تلك المنطقة مثلاً، ثم يلحق بها عدة فصول للتقوية تعويضاً عن فشل أو عجز أو تدهور أو قصور النظام التعليمي الرسمي، ثم يبدأ في تخصيص مبالغ شهرية من عائد الزكاة أو النذور أو التبرعات لمساعدة الأسر الفقيرة بتخصيص "معاشات" شهرية لتلك الأسر، كبديل عن الضمان الاجتماعي الذي لم تقدمه الدولة الرسمية، وهكذا.

مع كل هذا، ألا يتحول ولاء المواطن ليصبح مرتبطاً بهذه الجماعة أو الجمعية أو المسجد أو الكنيسة، بسياساتها وشخوصها ومصالحها، بدلاً من ولائه للوطن الأصلي؟ وعندما تعرض له قضية وطنية أو سياسية، ألا يأتي قراره بناء على مصالح أو توجيهات قادة الدولة الموازية التي تفي باحتياجاته؟ هنا نكتشف أن انتماء وولاء المواطن يصبح للمسجد أو الكنيسة أو الجمعية أو صاحب العمل أو عضو مجلس الشعب الذي يفي باحتياجاته الحياتية، وتصبح مصلحة تلك الدولة الموازية مقدمة على مصلحة الدولة الرسمية التي تجسد مفهوم الوطن الأصلي.


لقد تقوقع المسلمون في الدين الإسلامي، وتقوقع المسيحيون حول الكنيسة، فأصبح للإخوان مثلاً دويلة إسلامية موازية، وأصبحت الكنيسة دويلة موازية أخرى، وتدريجياً اجتذبت هذه الدويلات الموازية الولاء من مواطني الدولة الرسمية الذين أرادوا بدورهم أن ينتموا لكيان بديل عن الوطن الضائع، فضعفت فكرة الوطن، واقتربنا من أن نصبح شعبين في وطن واحد. بل أننا نسمع هذه التعبيرات بالحرف: الشعب المسيحي، أو شعب الكنيسة والأمة الإسلامية، إين إذن الأمة الموحدة التي تسكن هذا الوطن، مصر؟ نحن ندعو للدولة المدنية ولفصل الدين عن السياسة، فما هو البديل عن ذلك، هل نريد نظام محاصة طائفي حتى نصبح شعبين يعيشان على أرض واحدة يتربصان ببعضهما البعض انتظاراً للحظة الانفصال، أم ندافع جميعاً عن حقوق المواطنة لكل فرد، مسلم أو مسيحي أو بهائي أو بوذي أو غير متدين؟



دور يجب أن يتغير


لا شك أن المؤسسات الدينية في مصر لعبت دوراً إيجابياً في مجمله في الماضي في الحفاظ على الشخصية الثقافية المصرية بل وتطويرها. فالأزهر حافظ على الطابع الوسطي للإسلام المصري إلى أن تغلغل فيروس الهوس الديني المستورد في المجتمع ككل والأزهر جزء من هذا المجتمع. كما نذكر أن حركة التنوير والتطوير خرجت من رحم الأزهر في بدايات القرن التاسع عشر، علاوة على وقوف الأزهر كجزء قيادي لا يتجزأ، من حركات المقاومة والاحتجاج بل والثورة. والكنيسة المصرية أيضاً لعبت دوراً إيجابياً في الحفاظ على اللغة المصرية والتقاليد المصرية القديمة التي تربطنا بالأجداد وتجعلنا نتواصل مع شخصيتنا القومية تاريخياً. ولكن مع ظهور الدولة الحديثة، كان من المفترض أن يتطور دور الأزهر والكنيسة ليتناسب مع تحديات العصر ومتغيراته، حيث أصبح التخصص هو سمة الحياة العصرية، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات. ولكن المؤسستين بدلاً من أن يفسحا المجال لمؤسسات الدولة المدنية ويشجعان على التطور الديمقراطي وانتخاب مجالس وبرلمانات ومسئولين مدنيين، نجد أن الحرص على عدم فقدان سلطة دنيوية جعل المؤسسة تقوم بدور هو خليط من مؤسسة دينية وسلطة حكم أو دور دولة ذات سيادة – داخل الدولة الرسمية.



فانقلب الدور الإيجابي إلى سلبي بسبب عدم مواكبة هذه التطورات، ولا شك أن لتلك المؤسسات الدينية اليوم دوراً سلبياً في التمييز الديني، ونحن هنا نتحدث عن كل من المؤسسة الإسلامية والكنيسة الأرثوذكسية. فالأولى تنهال علينا بسيول من الفتاوى التي لا يقبلها عقل ولا منطق، والثانية تصر على انتزاع الحقوق المدنية من المواطنين المسيحيين، فدمجت مثلاً الزواج بشقيه القانوني والروحي في حزمة واحدة، رغم أن الطبيعي أن تترك الشق القانوني للدولة المدنية، وتتحكم هي في الشق الروحي كما تشاء. ولا ننسى بالطبع جلسات الإرشاد، وقضايا الحسبة، والتعامل مع المسائل الدينية وكأنها ملف أمني في الأساس.



الإخوان المسلمين وإخوان الصليب


ومن أجل الحفاظ على السلطة الدنيوية، يجتهد زعماء الحركات السياسية التي تستخدم الدين، في تعريف الدولة من خلال قالب ديني، لأنهم يعلمون أن استخدام التعريف العصري المتفق عليه للدولة الحديثة، يقلص من سلطاتهم لتنحصر في المجال الروحي، فتضيع سلطاتهم الدنيوية والسياسية، فنجد الإخوان المسلمين مثلاً يعرفون الأمة بأنها الأمة الإسلامية، ويعرفون الهوية المصرية باعتبارها جزء من الهوية الإسلامية، في برنامجهم الذي أعلنوا عنه عام 2007. وقد جاء في سياق هذا البرنامج فكرة "المجلس الملي" أو "هيئة كبار علماء الدين" (صفحة 10)، المنوط به "تطبيق الشريعة الإسلامية" الذي أعطاه البرنامج سلطات فوق - دستورية، باعتباره مجلساً يحتكر تفسير الإرادة الإلهية، بمثابة الصدمة للمراقبين، الذين رأوا في المجلس تكريساً للدولة الدينية وولاية الفقيه، إلا أن هذه الصدمة، حجبت أموراً فنية جوهرية في البرنامج، وهي أمور أراها أخطر بكثير، وتعد بمثابة إعلان حرب على "الهوية المصرية" نفسها.



ورغم أن البرنامج تحدث عن "دولة تقوم على مبدأ المواطنة"، تساوي بين كل المواطنين "في صفحة 12 و 26، إلا أن البرنامج عاد وأعلن أن "الهوية الإسلامية" هي أساس العقد الاجتماعي، والعلاقات الخارجية، والبناء الثقافي، في صفحة (18، 28، 32، 113، 114)، بينما لم يأت أي ذكر "للهوية المصرية" ولا مرة واحدة في البرنامج المكون من 128 صفحة.



وهنا يبرز تناقض واضح، كيف تقوم دولة مصرية على مبدأ المواطنة كما يدعي البرنامج، بينما هي لا ترى أن مصر لها هوية أصلاً، وتصر على أن الهوية الإسلامية هي الأساس التعاقدي للمجتمع؟ كيف تكون الهوية الدينية هي أساس العقد الاجتماعي في الدولة، التي يفترض فيها ألا تفرق بين مواطن وآخر على أساس الدين؟ إن الدولة الوحيدة في العالم تقريباً التي تركز على الدين كأساس للمواطنة هي إسرائيل، بالطبع إلى جانب الدولة التي يدعو لها هذا البرنامج.



ويتضح في البرنامج الهدف الرئيسي من الحرب على الهوية المصرية ممن يضعون لهم شعاراً "طظ في مصر"، حينما يدعو إلى "دولة تحقق وحدة الأمة الإسلامية" (صفحة 15 و 16 و 27 و 32) وهي في الواقع دولة الخلافة الإسلامية التي أعلن الشيخ على عبد الرازق منذ ثمانين عاماً أنها سبب تخلف الدول الإسلامية كلها، في كتابه التاريخي، الإسلام وأصول الحكم. واليوم يعلن علينا الإخوان أن مسح الهوية المصرية هو السبيل لتحقيق الوحدة، رغم أننا رأينا كيف استطاعت دول أوروبا أن تتحد، مع الاحتفاظ بالهوية القومية والحضارية لكل شعب واحترامها، وفي تصورنا أن التحالف أو الاتحاد مع الدول الأخرى لابد أن يأخذ في الاعتبار المصلحة الوطنية والعوامل المختلفة للهوية وليس الدين فقط.



وفي نفس الوقت يخرج علينا "إخوان الصليب" ليقولوا لنا أن المصريين الذين دخلوا في الإسلام قد تنازلوا عن هويتهم المصرية. ولا يفوتني أن أقول أن عدداً ضخماً من "إخوان الصليب"، يتشدقون بالعلمانية، ظناً منهم أن العلمانية هي سب الإسلام، ولكن عند بحث القضايا المفصلية، تجدهم يأخذون جانب المرجعية الدينية على طول الخط، تماماً مثلما يتشدق الإخوان المسلمون بفكرة المواطنة، ثم يعودون ويعرفون الوطن على أساس أنه دار الإسلام والأمة الإسلامية، وبالتالي فغير المسلمين هم أهل الذمة مواطنون من الدرجة الثانية على أفضل تقدير.


 هل تتعارض الهوية القومية مع الهوية الدينية؟ 


والهوية المصرية لا تتعارض مع الهوية الإسلامية أو المسيحية، وأحيانا قد يقع بعضنا في حيرة ترتيب أولويات الانتماء، فالبعض يقول أنا مصري أولاً والآخر يقول أنا مسلم أو مسيحي أولاً، وفي رأيي هذا به خلط للأوراق، فتعدد الانتماءات في كل شخص شيء طبيعي، ولكن يجب أن نبحث عن موضوع النقاش حتى نحدد أي من الانتماءات له الأولوية في ذلك الموضوع، مثلاً أنا أهلاوي أولاً عندما يتعلق الموضوع بماتش كورة في الدوري المصري، ومصري أولاً عندما يتعلق الموضوع بشيء سياسي أو شيء يمس وضعي كمواطن في دولة اسمها مصر، أو أمر يمس أرض مصر أو حدودهأ، ومسلم أولاً أو مسيحي أولاً عندما يتعلق الموضوع بشيء ديني يمس علاقتي الشخصية بالخالق، وقد أكون مهندساً أولاً أو خبيراً في الإدارة أولاً عندما يتعلق الموضوع بشيء فني مهني أو إداري. فكوني مصرياً لن يجعلني أدلي برأي يخالف أصول المهنة أو المبادئ العلمية المتعارف عليها إذا سئلت للشهادة مثلاً في قضية حكومة مصر تكون أحد أطرافها. وأنا إنسان أولاً عندما يتعلق الموضوع بأمر يمس الإنسانية كلها مثلا حقوق الإنسان لا فرق فيها بين مصري وغير مصري، وهكذا، فتعدد الانتماءات بالطبع موجود، ولكن الأولوية تكون حسب الموضوع الذي نتحدث فيه. ودائرة المركز في دوائر الهوية، وهي الدائرة التي نشترك جميعاً في الانتماء لها كمصريين، هي دائرة انتمائنا لمصر، الوطن الأم، وأساس المواطنة بين كل المصريين، هو المساواة بيننا جميعاً كمصريين، لا فرق في ذلك بين مسلم أو مسيحي أو غير متدين، وهذا هو الحل لهذا الخلط الذي يتم بحسن نية من البعض أو بسوء نية من البعض الآخر.



إخواني المسلمين والمسيحيين يا من ترون أن الوطن هو الدين، أقول لكم: طرحكم يعني اغتيال الهوية المصرية، هوية الوطن الأم، لصالح هوية دينية رغم أن الدين لا يطلع عليه سوى الديان، أنتم تفتحون الباب واسعاً لاغتيال وحدة مصر، ربما بحسن نية. ندعوكم لمراجعة النفس، والنظر في تاريخنا الذاخر، ثم في المستقبل وكيف يمكن أن تستعيد مصر عبره مكانتها كدولة رائدة في العالم، لنرسم معاً صورة، لما نتمنى أن نرى مصر عليه، ثم دعونا نعود إلى الحاضر، لنعلن كلمتنا في كنه ومكونات هوية مصر، ونتمنى أن يكون الانتماء الديني قد ترك في قلوبكم مكاناً يتسع لهوية مصرية.



الدين ليس هو العدو



إلى من يرون أن الدين هو العدو ... إلى من يرون أن الإسلام هو العدو ... إلى من يرون أن المسيحية هي العدو ... أقول لهم، الدين يمكن أن يكون أقوى داعم في الدعوة للتسامح والإخاء، أما إذا خيرتم الناس بين الدين وبين ما تدعون إليه، لاختاروا الدين، وفي نفس الوقت، لا يوجد سبب لمثل هذه الخيارات المتعسفة، فيمكن لكل إنسان أن يحتفظ بعقيدته، وفي نفس الوقت يتعامل مع إخوانه في الوطن بمساواة كاملة وتسامح غير محدود. أقول لمن يحاولون افتعال معركة مع الدين، الديانات حمالة أوجه، يمكننا أن نجد فيها الآيات والتفسيرات التي تدعو للتسامح، "لكم دينكم ولي دين"، "لا إكراه في الدين"، "أحبوا أعداءكم"، "لست عليهم بمسيطر"، وهو ما يضع حدوداً بين الولاية الروحية والسلطة الدنيوية، فالسيطرة تدل على السلطة الدنيوية، تماماً مثل "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله". وهناك أيضاً آيات وأحاديث وقصص يمكن أن يجد فيها البعض ما يفسره في اتجاه الإقصاء، ويستخدمه في التحريض على الكراهية، بمفهوم "من ليس معي فهو ضدي"، أو "قد أتيت بسيف"، أو "وأعدوا لهم ..."، أو "وقاتلوهم ..."، إذا استخدم التفسير الحرفي دون أن ينظر لسياق الموضوع، والأهم، دون أن يستخدم المقياس الأصلي، وهو مقاصد الدين والقيم العليا التي يحض عليها. وعلى سبيل المثال يذكر البعض آيات مثل "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم"، باعتبارها تحض على العنف والإرهاب، بينما قد يفسرها البعض بأنها تدعو لتطوير قوة الردع التي تمنع الاعتداء وتضمن السلام، لإن إعداد القوة لتخويف العدو من مغبة العدوان هو توجه نحو السلام من منطلق القوة الدفاعية أو قوة الردع، فأي التفسيرين نريد ونستلهم؟ التفسير الذي يحاصر الأديان في خانة الإرهاب أم التفسير الذي يفتح الباب والقلب للسلام والإخاء؟ هل نريد أن نحاصر الأديان في التفاسير المتعصبة التي قد تحض على العنف وعدم قبول الآخر أم نسعى لتطوير الفكر الديني والتركيز على التفاسير والآيات التي تنشر المحبة والإخاء والقبول بالآخر؟


هل ندمغ الإسلام بالعنف لوجود حوادث إرهابية من مسلمين، أو بسبب توسع الإمبراطورية الإسلامية عن طريق الحروب، أو كنتيجة لوجود فترات من الاضطهاد الديني في عصور حكام مسلمين؟ وهل كان توسع الإمبراطوريات القديمة سوى عن طريق الحرب؟ هل ندمغ المسيحية بالعنف نتيجة لاضطهاد غير المسيحيين والأريوسيين وغيرهم بعدما تبنت الدولة الرومانية المسيحية كديانة رسمية للدولة، أو بسبب محاكم التفتيش في أسبانيا وإيطاليا وغيرها، أم نستلهم عظات المسيح المملوءة بالدعوة للحب والتسامح ونأخذ حوادث العنف باعتبارها أمثلة ودروساً لما يمكن أن يحدث إذا شجعنا التوجه المتعصب لأي دين؟

المعركة ليست ضد الدين، وإنما ضد الكراهية والتعصب باسم الدين، والاقصاء باسم الدين، والشيطنة والتكفير والقتل باسم الدين. المعركة هي تطوير الفكر والفهم الديني ليتناسب مع متغيرات الحياة، وفي نفس الوقت مع الحفاظ على القيم والمقاصد، وليس النصوص والتفاسير الجامدة. فالدين إذن مثل البوصلة التي ترشدنا للاتجاه، وليس كالوتد الذي يثبتنا في الأرض فنتوقف عن المسير، أو ننكفئ على وجوهنا بفعل التباين بين طبيعة الزمن الذي يتحرك للأمام، وأحكام الشيوخ أو الآباء الذين يريدوننا أن نتشبث بذلك الوتد الذي لا يعرفون غيره.



الخلاصة


إن الأساس في مناهضة التمييز، هو التطور الثقافي والحضاري، بما يشمله هذا من تطوير منظومة القيم والمعاملات والتشريعات، أما التركيز على التشريعات فقط فهو أمر محكوم عليه بالفشل وقد يؤدي لنتائج عكسية. وفي نفس الوقت، من يحاولون افتعال معارك وهمية مع الدين – أي دين – فهم يضربون المواطنة والدولة المدنية في مقتل، ويعملون لصالح دعاة الدولة الدينية. بل يجب علينا أن نساهم في تطوير الفكر الديني والتركيز على قيم الحب والتسامح وليس استعراض التفاسير الشاذة أو معايرة أصحاب الديانات بالفتاوى المشينة.



والتطور الحضاري أساسه النتاج الفكري، ثم بث هذا النتاج من خلال منظومات الثقافة والإعلام والتعليم، إلى أن نرى القيم الحضارية تتجلى في السلوكيات والمعاملات بل والطبائع والعادات الشخصية والاجتماعية، وعندها تتنامي قوة المناعة الحضارية، للقضاء على فيروس التطرف والهوس الديني. وفي نفس الوقت، فإن التطور الديمقراطي وتحقيق المواطنة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية هو القوة الوحيدة التي يمكن أن تدفع بالدولة الرسمية لتحل محل الدويلات الموازية التي اقتنصت ولاء المواطنين منها، حتى تصبح المواطنة والولاء والانتماء الأول هو للوطن، وليس لجيتو ديني.

Tuesday, November 09, 2010

Post-Realism

ما بعـد الواقعـية

Post-Realism

خلال الشهور الماضية، أتيحت لي الفرصة أن ألتقي بالعديد من نواب البرلمان الأوروبي والألماني والبريطاني، والمسئولين بالمفوضية الأوروبية والخارجية الألمانية، والأحزاب الليبرالية في أوروبا، ضمن وفد من ممثلي الأحزاب الليبرالية العربية، بدعوة من مؤسسة فريدريش ناومان. وفوجئنا جميعاً أن الموضوع الذي دفع به جميع المتحدثين العرب من المغرب، والجزائر، وتونس، ومصر، والأردن، وفلسطين على طاولات المحادثات الثنائية والجماعية والمناقشات العامة والخاصة، كان موضوع القضية الفلسطينية، مع تشديد على قصور الدور الأوروبي في حل القضية، يسبقه فساد الدور الأمريكي وانحيازه التام لإسرائيل، وازدواجية المعايير الدولية، بما ينذر بكارثة إقليمية وعالمية.

وفي حديثي لأحد المسئولين الألمان، أوضحت أنه لو كان هذا اللقاء تم منذ 10 سنوات، لكانت دفة الحديث اتجهت لدور أوروبا في التنمية الاقتصادية في بلداننا، ونقل التكنولوجيا، والتحول الديمقراطي، وسبل التعاون في إطار الديبلوماسية الشعبية، وغيرها من موضوعات كانت تميز المرحلة التي أسميها مرحلة الواقعية السياسية. بدأت تلك المرحلة في نوفمبر 1973. ففي أعقاب حرب أكتوبر 1973، جلس الرئيس السادات مع كيسنجر، وصارحه برؤيته في مستقبل المنطقة، وضرورة الوصول لاتفاق سلام بين العرب وإسرائيل، وعزمه على أن تتجه مصر غرباً. وكان السادات قد طرد حوالي 15 ألف خبير سوفييتي في صيف 1972، دون أن يبعث بأية إشارة أو يجري أية مفاوضات مع الجانب الأمريكي أو الغرب حول "الثمن" الذي كانت أمريكا مستعدة حتماً لتقديمه مقابل هذا التغيير في خريطة النفوذ السياسي العالمي لقطبي الحرب الباردة في ذلك الوقت، وهو التغيير الذي شكل نقطة انقلاب حسمت نتيجة الحرب الباردة بصورة مبكرة قبل انهيار المعسكر الشرقي داخلياً في نهاية الثمانينات. ومرحلة الواقعية السياسية، تلت مرحلة الرومانسية التي ميزت سياسات مصر في الستينيات، حركتها طموحات الوحدة العربية بأحلامها الرائعة، التي استيقظنا منها على كوابيس الهزيمة المروعة، في يونيو 1967. وفي صباح 11 سبتمبر 2001، استيقظ العالم على مشاهد مفجعة، عندما ظهر طرف لم يكن مدعواً أو محسوباً في تقديرات النظام العالمي الجديد، طرف استطاع تخطي الحواجز الأمنية، والحدود الدولية، والفجوة التقنية، والجيوش النظامية، ليضرب ضربات سريعة متلاحقة، في الولايات المتحدة، ولندن، ومدريد، وشرم الشيخ، وبالي، وغيرها من مدن وعواصم العالم، فيسقط الأبرياء ضحايا للإرهاب، في رسائل دموية نارية طائرة، أوقظت العالم وأوقظتنا جميعاً من مرحلة الواقعية السياسية، لندخل في مرحلة ما بعد الواقعية Post-realism.

ما هي الواقعية السياسية؟ هي أن نطلب من العرب ألا يطمحوا في سلام عادل لأنهم لا يملكون القوة الكافية لاستحقاق هذا السلام. هي أن نطلب من الفلسطينيين أن يجلسوا على طاولة المفاوضات تحت فوهة المدافع، ويقبلوا بما يفرضه المفاوض الإسرائيلي من شروط لأنهم لا يملكون بطاقات يفاوضون بها. الواقعية بالطبع تحتم على الجانب الفلسطيني أن يعود إلى شعبه، ويحاول إقناعه بأن يقبل بتسوية تفتقر إلى العدل، باعتبار أن هذا هو "حكم القوي"، في عالم لا يعرف من العدالة إلا السيف الذي جردنا العدالة منه، ووضعناه في يد من يمتلك المدافع والأسلحة النووية والتقليدية. وبعد أن يجاهد المفاوض الفلسطيني في إقناع شعبه بالتسوية المغبنة، يعود الجانب الإسرائيلي فيرفضها، بحجة أن الواقع السياسي قد تغير على الأرض، فتبدأ المفاوضات من جديد من نقطة ما قبل الصفر، وهكذا تضيع الحقوق في مسلسل من التنازلات التي لا تنتهي.

دعونا نتصور أن يتم هذا على المستوى المحلي، عندما يقوم شخص ما بسرقة حافظة نقودك تحت تهديد السلاح، فتذهب تشكو للبوليس، فيطلب منك الضابط أن "تتفاوض" أنت الضحية الأعزل، مع الجاني المفتري المدجج بالسلاح لتطالبه بحافظتك؟ ماذا يمكنك أن تفعل؟ قد تضطر لحظتها للاستعانة بأحد البلطجية، أو تشتري أنت بنفسك قطعة سلاح، وتستغل فرصة نوم المفتري الغاصب، فتستعيد نقودك وقد تأخذ بعضاً من نقوده أيضاً، أو قد تخطف أحد أطفاله في طريق عودته من المدرسة، لتساوم به على استعادة حقوقك. أليس هذا ما يحدث اليوم في مجتمعنا عندما تعجز العدالة عن الحفاظ على حقوق المواطنين؟ ألا يلجأ البعض للبلطجة في الدولة الموازية لاستعادة حقوقهم في ظل غياب آليات العدالة؟ إن البناء الحضاري للعالم قام على فكرة "ماعت" وهي التي مثلت نظام العدالة والتوازن بين القيم العليا للإنسان في الدولة المصرية القديمة، وبدون "ماعت" يعود البشر لقيم الغابة، القيم التي تحكم عالم الحيوان، وأهمها قيمتي القوة والسرعة، وتنتهي الحضارة الإنسانية، بعد أن يصبح من حق أي شخص ما دام يملك القوة أو السرعة أو كليهما، أن يقتنص ممتلكات الآخرين، أو يعتدي عليهم، أو يقتلهم، أو حتى يأكلهم، فهذه هي طبيعة قيم الغابة.

نفس الشيء ينطبق على المستوى الدولي، فإذا لم تجد الضحية من تشكو إليه، وإذا لم يجد المعتدي من يردعه ويزجره ويأخذ الحق منه، بآليات واضحة ومعايير موضوعية، بدون ازدواجية أو محسوبية دولية، تغيب العدالة، ويصبح الحديث عن الشرعية الدولية حديث أجوف من أي معنى أو غاية، وتتوه الحدود بين الحق والباطل، ويصبح الإرهاب أداة من أدوات البلطجة الدولية، منظومة موازية، مثل الأخذ بالثأر في المجتمعات القبلية، التي تعاني من غياب آليات مجتمعية للشرعية والعدالة.

قالت إحدى السياسيات "الواقعيات": "لابد أن تعلموا أننا ملتزمون بأمن إسرائيل، وأن تعاملنا مع إسرائيل يتسم بحساسية مفرطة، وهناك ذكريات ما حدث في الحرب العالمية الثانية، التي تجعلنا عاجزين عن فعل الكثير من الأشياء التي قد تكون واجبة وصحيحة. ولابد أن يتحقق السلام من خلال التفاوض، ونحن كأوروبيين نشعر أحياناً أن إسرائيل لا ترحب بتدخلنا، وبالتالي لا نود أن "نتطفل" على القضية، ونحن نبذل أقصى ما في وسعنا في حدود هذه المعطيات." يا سيدتي، لقد تفضلتم و"تطفلتم" وتدخلتم بالفعل، عندما أصدر بلفور وزير الخارجية البريطاني وعد بلفور في 1917، ثم جاء اضطهادكم لليهود ومحارق الهولوكوست، واليوم تشعرون بالذنب، وتظنون أنه ربما علينا نحن، أن ندفع ثمن خطاياكم أنتم، ولكن الشأن الفلسطيني، لم يعد قضية محلية أو إقليمية، بل أن العالم كله يدفع الثمن الآن. ربما حدث لكم نوع من الكلال أو أصبح الموضوع كمرض مزمن يتعين علينا أن نعتاد عليه، ولكن الوضع الآن يختلف، لقد كفرت الشعوب في منطقتنا بالعدالة الدولية وأصبحت الحركات المتطرفة والمسلحة ودعاة القوة مثل حزب الله، حماس، أحمد نجاد، تتمتع بتأييد قطاعات واسعة من العرب والمسلمين في العالم كله وداخل حدودكم أنتم، حتى بن لادن نفسه، أصبحت له شعبية بفضل احتكامكم للمعايير المزدوجة، وأخشى أن حساسيتكم تجاه ما فعلتموه أنتم ضد اليهود في الحرب العالمية الثانية، قد يدفع العالم نحو حرب عالمية ثالثة، بل ربما نكون الآن وسط حرب عالمية ثالثة بالفعل، ولكنها حرب غير تقليدية، حرب موازية، أنتم تحتلون العراق وأفغانستان بالقوات النظامية، ويدفع المدنيون الثمن في تفجيرات إرهابية، في لندن ونيويورك وشرم الشيخ وبالي ومدريد.

ومن أجل أن نتجنب هذه الحرب العالمية الثالثة، أو نجهضها، لابد أن نعود مرة أخرى إلى المبادئ، وهذا ما أسميه مرحلة ما بعد الواقعية. إن ما حدث وأهال عليه العالم التراب في الماضي، ظنا أنه مات وتحلل، فهو يبعث اليوم، إنه ينهض الآن، ليلاحقنا في كل مكان. لم يعد من الممكن أن نهرب من يوم الحساب، لقد أصبحت "الكارما" التي استحقتها كل دولة معلقة في رقبتها، "كل طائره في عنقه". لم تعد للجيوش وأسلحة الفيديو جيم والتحصينات الأمنية قيمة، فالعقاب يأتي من حيث لا نحتسب، أحياناً من السماء، وأحياناً في الهواء أو الماء، إن الشخص الذي يصل لدرجة من الإحباط واليأس، تجعله مستعداً لمبادلة حياته، مقابل توصيل رسالة دموية، لعالم خلا من العدل، مثل هذا الشخص قد لا تنفع معه إجراءات الأمن، لأن إجراءات الأمن تعتمد على أن الشخص سوف يأتمر بأمر رجال الأمن خوفاً على حياته، ولكن ماذا إذا هانت حياته وفقدت قيمتها أمام الظلم والفقر، وقيل له أنه سوف يصبح بطلاً شهيداً يستحق الجنة، والجنة الآن؟ عندما يصبح ذلك الشخص العادي انتحارياً تعجز أمامه كل الإجراءات والتحصينات.

هذا عن أفراد انتحاريين، ولكن ماذا إذا وصلت أنظمة انتحارية إلى الحكم في الشرق الأوسط؟ لقد اكتسبت القيم التي يتشدق بها الغرب سمعة سيئة وسط الشعوب، فالنظم المستبدة تذيق شعوبها الذل وشظف العيش، وهي تتمسح بالأنظمة الغربية وتسير في ركابها، بينما تدعي أنها تقود تلك الشعوب للجنة الغربية، والشعوب لم تر من جراء مبادرات السلام والانفتاح على الغرب سوى المزيد من الإذلال والفقر، وضياع الأراضي والحقوق، ولم تر من العالم الغربي الذي يتشدق بقيم الحرية والعدالة والشرعية الدولية، سوى النفاق الأخلاقي، والمعايير المزدوجة والتعامي عن الجرائم الإسرائيلية بسبب قوة اللوبيات اليهودية في الولايات المتحدة والعالم.

إن التخلي عن مبادئ العدالة والحق والمساواة، يهدم الأساس الأخلاقي للحضارة الإنسانية، ويفتح الباب لأن تصبح القوة الغاشمة هي أساس الاستيلاء على الحقوق واغتصابها أو استعادتها، وبهذا نطعن السلام في العالم طعنة قاتلة، ويصبح على كل شخص منا ألا ينام، فعليه أن يسهر مدججاً بالسلاح، يتمنى ألا يغفو، ولكنه حتماً سوف يغفو، وعندما يغفو أي منا، لا نعلم من أين يأتي الخطر.

إن الرومانسية وتجاهل الواقع يجعل ما نقوله هنا مجرد كلام غير قابل للتطبيق، ولذلك على العالم اليوم أن يتطرق إلى حلول خلاقة تضع آليات لتحقيق العدالة الدولية على أرض الواقع، ربما من خلال إصلاح الأمم المتحدة، أو اللجوء للتحكيم الدولي عندما تفشل المفاوضات، أو الضغط الاقتصادي على الدول التي تتسبب بسلوكياتها المستهترة في تقويض السلام العالمي.

لا يجب أن نقع ضحايا للواقعية المفرطة ونقول هذا هوالواقع. لو قال أجدادنا نفس الشيء، لظلت مصر تحت الحكم العثماني أو الانجليزي، ولظلت أوروبا تحت نير حكم امبراطوريات مستبدة، ولظل الإنسان يعيش في الغابة. فالعالم نرسمه في مخيلتنا وضمائرنا أولاً، ثم ننطلق لنبنيه ونصنعه على أرض الواقع، ولا يجب أن نتخلى عن حلمنا في عالم ينعم بالسلام، والتطلع لغد أفضل لنا ولأبنائنا، بحجة أن الواقع سيء.

هذه هي ما أسميه بمرحلة ما بعد الواقعية. وفي رأيي، هذا هو البديل عن اندلاع أو اتساع الحرب العالمية الثالثة. لأنه إذا كانت الواقعية تحتم علينا أن ننظر للأوضاع اليوم كما هي، فإن ما بعد الواقعية، تستدعي منا أن نتحسب لمخاطر المستقبل التي قد نجلبها على أنفسنا، عندما ننسى القيم الحاكمة في منظومة "ماعت".

Friday, October 02, 2009

NPM

Egypt’s Autocracy

Time to Make a U-Turn

The Oldest Centralized State

For over 5000 years, Egypt has known one of the oldest Centralized States since the “second” unification under King Mene, Unifier of the Two Lands, around 3150 B.C. Since then, Egypt’s borders, administrative structure and probably public services did not change much! Unity seems to fateful due to the hydro-geography of the land and the need for a stable irrigation system which is centrally controlled. But does that mean we have to live with the same administrative problems forever?

Modern State

Egypt witnessed its first modern reforms on the hands of Mohamed Aly, installed as ruler by the people in 1805 AD. After Napoleon’s short adventure in Egypt, Egyptians realized how bad things have become under the Ottoman rule and were eager for modernization. Egypt saw its golden liberal era between 1922 and 1952. Egyptian economy, culture and arts thrived with private initiative in a liberal society.

Re-distribution of … Poverty?

In 1952, the “Free Officers” movement led a coup d’état or a “Revolution” which took Egypt in a totally different path. Under the banners of “Social Justice” and “Re-distribution of Wealth”, every business was soon “Nationalized”, i.e., put under controlling hands of the “revolutionaries” and their accomplices who quickly formed a new ruling elite which controlled every aspect of Egyptian life. Industry, Trade, Banking, Insurance, Contracting, Transportation and other services all came under the “State’s” control but so did the media, education, healthcare, theater, cinema, book publishing, the arts and culture. Nothing seemed to escape the grips of the tight control-obsessed administration. The government would nationalize for instance a successful factory and install an army officer as Chairman and CEO then kick the business owners out. A large and perhaps at one time briefly productive and socially popular Public Sector was the backbone of the Egyptian State for several decades following 1952 and specially after the July Socialist Decrees of 1960 and 1961. But Egypt’s back was suffering and near collapse. Over time this system has become expensive and unsustainable, creating a passive citizenry, encouraging relationships of inequity and dependency and allowing room for mismanagement, corruption and waste of national resources. Near-criminalization of private initiative led to the death of entrepreneurship and the decay of the process of generating wealth which came to a standstill. With the annulment of wealth-making activities, “Redistribution of Wealth” would become “Re-distribution of Poverty”.

Obsession with Control

Obsession with control soon turned Egypt into a Police State where the ruling elite felt that “their” state needed protection from “enemies of the revolution”. Random arrests and voluntary detentions became the norm in dealing with anyone suspected of voicing out opposition. A wide citizen-based network was installed where people would spy on each other and report suspicious activities, “objectionable” material or speech to security authorities which reigned supreme with unchecked powers. We argue that this obsession with control was behind Egypt’s uniquely designed administrative apparatus, modeled with one concern or rather a phobia in mind: state security and control and therefore, without major political paradigm shift, no administrative reforms can be effective.

Faulty Administrative Structures

All administrative structures in Egypt were built with this phobia in mind. Everyone and every entity, public or private, in the State should be a part of the hierarchy and ultimately report to one person at the top of that hierarchy, the president. According to the constitution (!), the President appoints the prime minister and the ministers who make the “technocratic government”. The President also appoints the “governors” who in turn appoint mayors of their cities. Minister of Interiors appoints mayors of villages. The President also appoints chief judges. Minister of justice appoints judges at all levels and decides on their benefits. The president is the chairman of the NDP ruling party which one way or another controls the parliament either through NDP members or through independent MPs who join the NDP after they win elections as independent candidates. The president also appoints minister of defense, head of the army. The President is Commander in Chief of the Army, Head of the Supreme Judiciary Council, head of the Supreme Police Council, and so on. So, at the end of the day, the President is meant to control the country through this tight hierarchy.

An Expensive Machine

The size of the government which has to fill this monstrous hierarchy is staggering. It is estimated that around 7 million Egyptians are employed by the government while several more millions work for the government one way or another. The government therefore controls between 30-50% of the work force which has been seen essential to maintain political grip of the regime over its people. Come election time, these millions are shipped in government-owned buses to vote for government candidates. The cost of Egypt’s bureaucracy is over LE 200 billion ($35 Billion) while the national debt approaches LE700 billion ($120 billion).

Pains of the Ruled

Egyptians have to put up with the arrogance, inefficiency and control phobias of this torturing machine. One week ago, in a closely controlled meeting between the prime minister and some university students, one of the carefully screened students just could not stay quiet, he stood up and faced the prime minister with the horrors of dealing with government corruption. The prime minister responded, “if the government is corrupt, then we are all corrupt, those in this hall with no relatives or family members working for the government, raise your hands.” This was the plan, implicate everyone, then we will have no one to blame. The biggest problem with this failing administrative system is not its cost, although it is pretty expensive. It is not funds lost to corruption, although corruption in Egypt goes beyond belief or comprehension. The biggest problem with this monstrous machine in Egypt is corruption of values and lost time. Time lost in dealing with unrealistic requirements and procedures mandated by the government make Egyptian economy no longer compatible with the rest of the world. So, if you wish to engage in the global economy as a part of the supply chain of an international manufacturer or distribution network, you fail to do so because of two main reasons, cost and tempo. Business tempo in Egypt is many times far slower than most other countries. So, working with a company in Egypt will soon cause a bottle neck in the system and the Egyptian company will eventually be eliminated from the chain as its weakest link. The failing administrative and political systems put their curse on Egyptian business competitiveness.

Hernando de Soto, in his book, Mystery of Capital observed that an Egyptian citizen wishing to obtain a permit for building a house and registering the deed for such a house in his name must go through some staggering 76 different procedures to complete that task which would take many years to complete. Since people must live and will usually require houses for this purpose, the reality today in Egypt is that millions of homes are built in what is called “Random Housing” clusters. Slums invaded Egypt’s landscape where no urban planning or design standards are followed.

At the end, the government had always had to bow its head and connect those millions of people with necessary utilities and we have to live for decades or centuries to come with an ugly, random, impoverished and utility deprived slum-based Egyptian landscape. The same goes for business licenses, car licenses, and all possible interactions with the government.

Egypt is not ruled by politicians. Egypt is ruled by security officers who dictate their terms on the technocrats cabinet, governors (usually ex-army officers), over the legislative and judiciary branches, the media and even the academia! So, when security people said GPS is bad and dangerous to Egypt’s security, what they meant is that it posed an additional risk for them in protecting heads of the regime and they did not see it necessary to put any effort to deal with that risk. Never mind that car navigation systems or fleet management systems may need it. Never mind that many new mobile phone set models came pre-equipped with GPS. Just ban GPS import and enjoy peace of mind. Until one powerful agent of a major auto manufacturer or a major mobile phone manufacturer made a deal with the security, which then agreed to allow GPS into Egypt or rather formally allow it since it has been informally and illegally in the market for years!

Rise of the Parallel State

For years, private businesses and ordinary people used to suffer the pain of dealing with the government with all the time lost, the humiliation, money lost in bribes, deteriorating service quality in education, healthcare, utilities, and so on, but the people gradually found out that they did not really “need” to do so. In a functional sense, a State is basically a number of administrative systems, structures and institutions which provide an organized solution to such social needs as collective decision-making, justice, security, education, healthcare, infrastructure, etc. If the “formal state”, however fails to provide a reasonable level of security, justice and quality life, or if laws issued are detached from the reality of things or contradicting with socially negotiated norms, or if laws are unenforceable, etc., individuals and private entities will seek to fulfill these essential services elsewhere, independent from the state. A Parallel State emerges gradually.

When a government employee who is supposed to deliver public services to citizens, services which should be provided by the state, when this public servant comes to the conclusion that his salary can hardly suffice to meet the essential needs of his family, he will be encouraged to establish a mini state of his own or a benefice for himself to provide such services against an additional cost in the form of tips, bribes or informal fees. The informal state is thus randomly formed as an ad hoc virtual collection of unrelated entities that collectively provide some or most of the functions and services which the formal state was supposed to provide. For instance, in education, poor quality of the state-run education system leads to the emergence of a parallel market for private tuition and after-hours education centers where the same lowly paid teachers working for the government would exert more effort in providing a better service for a reasonable fee! This was also manifested in a parallel market for books which claim to explain gibberish government-published books and so on. In the Healthcare sector, care providers and nurses working in government-operated hospitals independently charge informal fees that would ultimately determine the quality of the healthcare, or the lack of which. In transportation, when the government froze the taxi tariffs for over 25 years despite inflation and rise of fuel prices, government-controlled meters became irrelevant as passengers and service providers would use their own rates independent from the state. I wrote extensively and published several articles and studies about this phenomenon and the list encompasses every possible aspect of state services, from licensing, permits, security, justice, political associations, credit, media, foreign currency market and even social structures.

Reform Efforts

The past few years witnessed a realization that this deteriorating situation cannot go on. The focus of the reforms started with fixing the bad and often conflicting legislations. Reform are usually introduced by cabinet technocrats who despite being aware of the power of the security chiefs, sometimes manage to convince the president that Egypt was on the verge of collapse due to the control-freak policies of the past 6 decades. Egyptian Human Development Report (EHDR) issued in 2005, introduced the idea of a social contract which represents a paradigm shift to conceive a new Vision for the Future.

The message of the EHDR 2005 is that Egypt can no longer afford a 'business as usual' approach to the many daunting challenges we face over the next few years. The report argues that the time is indeed right to review our options and to implement new measures to enhance human security, growth and development. A perception that a new 'social contract' is needed, which better articulates the concepts of citizen rights and citizen obligations is becoming increasingly evident. It assumes that reform is a shared task that will succeed only if all citizens take part in the process, and if the state empowers its citizens in an increasingly competitive and rapidly globalizing world.

The government talks of decentralization, the President gave promises for updating the laws and fixing the dysfunctional government structures, but I believe that without addressing the political process and ending the Police-State, only minor reforms can be achieved. Two days ago, one of the Governors was called to a hearing in the People’s Assembly, the lower house of the Egyptian parliament, to be questioned about a Typhoid epidemic spreading in his governorate as a result of sewage leaking and mixing with drinking water. The Governor publicly insisted that it was not his fault, because he had no power over such infrastructural civil works which are centrally managed by the Ministry of Housing. I wrote an article agreeing with the governor, but for different reasons. The Governor is indeed not responsible. People of his governorate have no say in electing him in or out of office. He is not accountable to the people. He is appointed by the president.

When there is a political will reform has shown itself to work for Egypt. When telecom market was partially privatized and deregulated it worked like magic. Instead of waiting for many years and paying a fortune to get a landline, Telecom Egypt is now advertising to promote its services. Mobile penetration reached 50% and a third operator was recently introduced into the market driving competition to work for the consumers. When a new tax law was issued lowering tax rates from an average of 48% to a flat rate of 20% tax revenues increased and people and businesses gradually are engaging in the system and the huge market for evading taxes is dying. The same happened with custom duties. Harmonization and reduction of tariffs reduced corruption and improved economic vitality. Partial reforms introduced to housing laws eliminated the need for complex “foot-hold” or “key-fee” for newly built apartments.

Conclusion: the Fallacy of Prioritizing Control

If we can learn anything from the Rise of the Parallel State, it would be that excessive controls actually lead to losing control. Control is surely an important element of any system design and as a result of modern management which often follows a system approach. Control, however, is only one element. Other elements are "effectiveness", i.e., can the system deliver desired objectives; and "efficiency", i.e., how efficient is the system when we compare outputs to inputs and "user-satisfaction / user-friendliness", i.e., how satisfied the users of the system are with its performance, among other things. Traditional public administration approach, however, emphasized "control" over any other element when designing and evaluating public administration systems. This surely came on the expense of effectiveness, efficiency and satisfaction of the users, citizens or the public, with regards to system performance.

Under authoritarian regimes specially, this emphasis on "control" had an additional political imperative, since authoritarian regimes rely for their survival on "control". However, the more procedures the government tries to install to ensure absolute control over the lives of the people, the weaker the government control in fact becomes, since people cannot and would not comply with these procedures, which renders the objective of absolute control as a self-defeating fallacy.

Egypt is a rich land with enormous resources, but its most precious resource is Egyptians themselves. If we shackle them in bondage, they, we cannot hope to reap the fruits of their creativity and hard work. Freeing the people is what makes wealth. And when we have a wealth-generating, value-adding economy, we can then have the resources to create and extend equal opportunity to Egyptians all over Egypt though a decentralized structure. This perhaps is the opposite of what autocratic, control-obsessed regimes have done for the past 6 decades and therefore I would say, time to make a U-Turn.

Sunday, December 07, 2008

Citizenship: Rebuilding the Bonds 2

إعادة بناء

روابط الانتماء


2


وائل نوارة

مجلة الإصلاح الاقتصادي CIPE نوفمبر 2008




الفساد

هناك تعريفات عديدة للفساد، ولكن ببساطة، يمكننا أن نعرف الفساد بأنه خلل في منظومة الحقوق والواجبات في المجتمع، يعطي أفراداً أو جماعات حقوقاً غير مستحقة، على حساب الافتئات من حقوق الآخرين، أو يعفي مجموعة معينة من الواجبات أو الخضوع للقوانين المتفق عليها في المجتمع نتيجة لاقترابهم من السلطة أو قدرتهم على التأثير فيها بالمال أو غيره. ويأخذ الفساد في مصر عدة أشكال:

* شبكة الفساد الصغير: وهذه الشبكة عبارة عن قنوات محددة للاستثناءات، تمكن الوكلاء السياسيين للدولة من القفز فوق القوانين المانعة، أو تيسير الإجراءات البيروقراطية، ليس بالضرورة عن طريق الرشاوى الصريحة، بل أيضاً عن طريق سوء استخدام السلطة Abuse of Power

* شبكة الإقطاع الجديد: مع خروج مصر من مرحلة رأسمالية الدولة State Capitalism حيث امتلكت الدولة كل أدوات الإنتاج لتسيطر على الحياة الاقتصادية بصورة كاملة، دخلت مصر في مرحلة "رأسمالية وكلاء الدولة" State Agents' Capitalism تحولت فيها مصر لنظام يشبه إلى حد ما النظام الإقطاعي في القرون الوسطى. أصبحت مصر مثل وكالة تمنح التوكيلات للشركاء التجاريين، على شكل مجموعة من الإقطاعيات في مختلف المجالات الاقتصادية، حيث يقوم "وكلاء النظام" بالقيام بدور رأسمالية الدولة ولكن هذه المرة لصالح النظام والحكام وبالمشاركة في الريع معهم ومع كبار المسئولين بصورة مؤسسية، مثل قطاعات الحديد والأسمنت والسيراميك والسجاد والاتصالات والسياحة والعبارات والبث التليفزيوني الخاص والمدن الجديدة واستصلاح الأراضي، عن طريق مجموعة محددة من "رجال الأعمال" الذين تقتصر عليهم التصاريح والتراخيص والأراضي والقروض وهكذا، علاوة على مجموعة من الشركات الأمنية التي تحصل على تعاقدات بمئات الملايين أو المليارات بالأمر المباشر بعيداً عن أي رقابة أو تدقيق. وهذه الشبكة تضخ جزءاً من ريع مثل تلك الأنشطة الاحتكارية في صندوق الولاء، الذي يمول بدوره رواتب "موازية" (مظاريف الولاء) لكبار موظفي الدولة، لضمان ولائهم للنظام، وغيرها من نفقات "موازية" خارج المنظومة الرسمية.


ومع تمدد "الدولة الموازية" وتغول شبكات الفساد المؤسسي، ترسخ شعور المواطن بالظلم وانعدام المساواة، وانهيار العدالة وتكافؤ الفرص، وخاصة مع عدم قدرة معظم المواطنين على الحصول على حقهم العادل من موارد المجتمع.



الهجرة
رأينا كيف يتولد شعور المواطن بالانتماء للوطن والمجتمع من وجود روابط ثقافية واقتصادية واجتماعية بينه وبين أفراد المجموعة، وأن قوة هذا الانتماء تتوقف على مدى قدرة المجتمع على تحقيق توازن في المصالح بين المواطنين، وبين الفرد والمجتمع، بحيث يستطيع كل فرد أن يحقق قدراً معقولاً من أهدافه الشخصية ويشبع حاجاته الأساسية.


وقد اجتمع عجز المواطن عن تحقيق الحد الأدنى من الحياة الكريمة، مع الخواء الثقافي والتناقضات الصارخة والمعايير المزدوجة في منظومة القيم، مع انتشار "الاحتراب المجتمعي"، وأدى هذا كله لظهور حالة من الاغتراب القومي نتيجة لإحساس الكثيرين بأن "البلد مش بلدنا"، ونتج عن هذا وجود شعور قوي بالحاجة إلى الهجرة، وشعور بالانفصام القومي، نتيجة لمجموعة ضخمة من المتناقضات والمتباينات، وأخيراً حالة مزمنة من الإحباط والاكتئاب القومي وشعور عام بالحصار وفقدان الأمل في الخروج من هذا الحصار.


وقد رأينا أنواعاً عديدة من الهجرة التي عبرت عن تلك الحالة، فعلى سبيل المثال نجد من يلجأون إلى الهجرة المكانية، فيحاولون مثلاً الهجرة إلى دول الشمال الغني، أو شرقاً أو غرباً إلى دول النفط. ورغم أن تحويلات العاملين بالخارج والمهاجرين قد تشكل مصدراً هاماً من مصادر الدخل القومي والنقد الأجنبي، إلا أن خسارة الدولة بهجرة خهيرة عقولها ومواهبها ليضيف هؤلاء للمزايا الاتنافسية لاقتصاد مجتمع ودولة أخرى، هي خسارة فادحة، وخاصة عندما يكون منطق الأمور و"كتالوج الحياة" في مصر لا يسمح غالباً بنجاح الموهوب أو المتقن أو ارتقائهما، عندها يصبح الحجم العددي الكبير مجرد إضافة أرقام ضعيفة الفاعلية والأداء لمجتمع أداؤه أصلاً ضعيف.


وهناك من يحاولون الهجرة الزمانية بالتشبه بملابس ومظاهر المجتمعات الإسلامية الأولى مثلاً، ونجد من يعجزون عن الهجرة المكانية فيلجئون إلى الهجرة العقلية إلى الشمال أيضا بأن يحيطوا أنفسهم بمظاهر الحياة في المجتمعات الغربية من موسيقى وملابس وأثاث ومعمار وغيرها من مظاهر الحياة الغربية، ونجد آخرون وقد وجدوا العلاج في ذهاب العقل برمته باللجوء للمخدرات في أشكالها المختلفة، ولا يجب أن ننسى من يهاجرون إلى الآخرة سواء بالانتحار أو "بالاستشهاد" في عمليات فدائية تحاول مقاومة الواقع المرير بمبادلته بأغلى وأقصى ما يستطيع إنسان أن يقدمه، وهو حياته.



العصيان المدني غير المعلن

ومع تفشي الظلم وغياب العدالة الاجتماعية وتآكل روابط الانتماء، يدخل المواطن في حالة "عداء" مع الحكومة أو الدولة التي تمثل الوطن وتجسده، ويبدأ المواطن في "الانتقام" من تلك الدولة التي افتئتت على حقوقه وفشلت بصورة مزمنة في توفير الحياة الكريمة له كمواطن، ونتيجة لما يلمسه من فساد القوانين وتخلفها وتعنتها، وفقدان النظام للشرعية، ومختلف الأسباب التي أدت إلى تراكم الإحباط والتعاسة والاكتئاب له ولأسرته ولباقي المواطنين. ويظهر هذا العداء في عدم احترام القوانين، والتنصل من أداء واجبات "المواطنة"، مثل التهرب من الضرائب والجمارك، بل والتحايل مثلاً لعدم أداء الخدمة العسكرية، في حالة تشبه العصيان المدني غير المعلن، لدرجة التباهي بالتحايل على القانون وخرقه، بعكس الدول المتقدمة حيث يكون هذا مدعاة للخزي والنبذ من المجتمع.


استعادة الانتماء

رأينا كيف يؤدي تآكل روابط الانتماء لحالة خطيرة من "العداء" بين المواطن و"الدولة" التي تجسد مفهوم الوطن، بما يقف كعقبة كؤود أمام التقدم والتنمية، بل ويؤدي لانفراط عقد المجتمع، نتيجة لاهتراء خيوط الانتماء التي تربط المواطنين ببعضهم ببعض من ناحية، وتربطهم "بالوطن" من ناحية أخرى.


ولذلك، لابد من اتخاذ التدابير والسياسات على المدى القصير والطويل، بهدف إعادة بناء وغزل خيوط الانتماء، حتى تنتظم الحبات المنفرطة في عقد الوطن مرة أخرى، ليتحرك المواطنون في اتجاه واحد لتحقيق رؤية واحدة، تؤدي لرفعة الوطن وتقدمه، وفي نفس الوقت رفاهية المواطنين ورخائهم.


وأول هذه التدابير كما نتصور، هو المكاشفة والمصارحة بالمرض الخطير الذي تسلل إلى قلوب وعقول الملايين من أبناء الوطن ليغتال انتمائهم للوطن أو يزعزعه، فبدون الاعتراف بالمرض لا يمكن طلب العلاج أو الالتزام به. ويصاحب ذلك استعراض للأسباب التي أدت للإصابة بذلك المرض وتغوله واستفحاله. ثم إعلان رؤية قومية للخروج من هذا المأزق، وإعادة تعريف الوطن والمواطنة على أسس جديدة. أما أن نتغنى بأناشيد مثل "ما تقولش إيه ادتنا مصر، قول حندي إيه لمصر" والاكتفاء بذلك دون حل المشاكل العويصة التي تواجه الانتماء في بلادنا، وهي المشاكل التي تسأل عنها الأنظمة الاستبدادية الفاسدة، الأنظمة الشمولية السلطوية، وهي أنظمة أثبتت عبر عقود طويلة افتقارها للرؤية أو الموهبة عدا في تجميد الأوضاع والحفاظ على مقاعد الحكم بصرف النظر عن معاناة الوطن والمواطن، هنا نكون كمن يعالج السرطان بأغنية "الدنيا ربيع والجو بديع" دون أن يأخذ اي علاج من ذلك المرض الخطير.


العـقـد الاجتماعي

ويلي ذلك إعادة صياغة هذا "التعاقد" المجتمعي، أو العقد الاجتماعي، في صورة "دستور" عصري يخرج من رحم الأمة، وينتج من تفاعل مختلف قطاعاتها الجغرافية والمهنية والفئوية التي تمثل مختلف المصالح المتباينة، في حوار وطني حقيقي، وليس عملية شكلية محددة النتائج سلفاً. إن هذا الدستور هو الذي يجسد مفهوم المواطنة، ويحدد حقوق المواطنين وواجباتهم، وينظم عملية بناء مؤسسات الدولة، والحدود التي تفصل سلطاتها المختلفة، حتى لا تجور سلطة على أخرى كما هو حادث الآن، وهو ما أدى لهذا الوضع الخطير الذي ينذر بكوارث وانفجارات مجتمعية بدأنا نرى بكل اسف بوادرها ونلمس عواقبها الوخيمة.


وهذا الدستور ايضاً يرسم خطوط ومساحات الملعب السياسي، وقواعد العملية السياسية، التي تؤدي إلى تمكين المواطنين من المشاركة في صنع القرار المجتمعي، بصورة ديمقراطية، وينظم عملية تداول السلطة على كافة الأصعدة، بدءاً من الإدارة المحلية متمثلة في عمدة القرية والمجالس المحلية، ورئيس المدينة، ومحافظ الإقليم، وصولاً لنواب الشعب الذين يمثلون السلطة التشريعية، وقيادات السلطة القضائية والتنفيذية.


والخطوة التالية، هي عملية شاقة وطويلة من تنقية القوانين واللوائح وإعادة تصميم النظم الإدارية لتصبح أكثر اتساقاً مع الواقع والعرف، حتى تنتفي الحاجة تدريجياً للدولة الموازية ويعود ولاء المواطن للدولة الرسمية التي تجسد مفهوم الوطن. إن إعادة تصميم هذه القوانين واللوائح، يجب أن يصاحبه جهد إعلامي وثقافي دءوب لإعادة ترسيم وترسيخ القيم الحاكمة للمجتمع التي تشكل "طريقة الحياة" Culture أو "كتالوج الحياة"، "منطق الحياة" أو "برنامج الحياة" أو "لوغاريتم" الحياة Life Algorithm في هذا الوطن والتي تحدد طبيعة التعاملات، ثواب المتقن، عقاب الفاسد، احتضان الموهوب، الترحيب بالمبادر، مد العون لغير القادر، سيادة القانون والمساواة أمامه، إلخ ... .


هذا "المنطق" هو الذي يحدد "إذا فعلت كذا يحدث كذا"، لأن المنطق الموجود حالياً يكافئ الفاسد والمنافق والراشي ويتغاضى عمن يخرج عن القانون أو يرتشي، يحتضن أصحاب المحسوبية والتوصيات والاستثناءات، ويعاقب أو يتوجس من المبادر أو الموهوب أو الناجح ويترصد للمتعثر بالمشانق. هذا المنطق أو القانون الجديد، لابد أن نتبناه في حياتنا، وننشره بالقدوة من أعلى إلى أسفل، ونعلن عنه في كل مناسبة بصورة متحضرة راقية بعيداً عن النصائح والمحاضرات المباشرة والعظات المبتذلة.


ونتيجة تطبيق "الكتالوج الجديد" لابد أن تظهر في أن تعود الدولة الرمسية لتحل مكان الدولة الموازية، فيشعر المواطن أن خدمات التعليم والصحة والرصف والصرف والأمن والعدالة والترخيص تفي باحتياجاته الحياتية، وأن قوانين الإسكان والمرور والنقل والهدم والبناء قوانين منطقية وواقعية، وأن التعامل مع الدولة الرسمية يمكن أن يكفيه شر الدولة الموازية، فينتقل ولاؤه من الثانية للأولى.


نتيجة تطبيق المنطق الجديد أو "الكتالوج الجديد" للحياة في مصر، لابد أن يراها المواطن العادي في تقلص الفساد، وعقاب رادع للفاسدين، بعيداً عن تسييس القضاء والضغط عليه في إصدار أحكام البراءة على القتلة ولصوص المليارات ومافيا الأراضي والمحتكرين، أو نحر الشهود في السجون وادعاء انتحارهم، للتغطية على جرائم الأصدقاء والمحاسيب. وهذا كله لا يأتي إلا بطلاق بائن بين السلطة والاحتكارات الاقتصادية، فمن غير المنطقي أن يظل المواطنون على انتمائهم بينما يسمعون أخباراً عديدة تصنع في النهاية رأياً عاماً قوامه التالي – بصرف النظر عن صحته:


أحد رجال الأعمال القريب من السلطة - يشتري 10% من حصة الدولة في أحد أكبر مصانع الحديد بسعر يراه البعض بخس ممول بقروض البنوك

ثم يصبح رئيسا لمجلس الإدارة ويستحوذ على الشركة

ثم ينخرط في الحزب الحاكم ويصل لأعلى المناصب فيه

وتخصص له ملايين الأمتار في المناطق الصناعية

ويصبح أكبر محتكر للحديد في مصر

تصدر قوانين الإغراق وتطبق لخدمة مصانعه

يصبح عضواً في مجلس الشعب

يصبح المسئول عن صياغة قوانين منع الاحتكار وغسيل الأموال، وتصدر تلك القوانين بصياغة غير كافية لدرء الأخطار عن المجتمع من وجهة نظر الحكومة والوزير المسئول

يصبح مسئولاً عن إدارة تنظيم الحزب الحاكم وبالتالي يتمتع بسلطة ضخمة في توجيه مسار الانتخابات القادمة
تصل ثروته طبقاً لتقديرات البعض إلى 40 مليار جنيه



المواطنة الاقتصادية

فلا يكفي أن نتشدق بالجانب القانوني أو السياسي للمواطنة، من تحديد للحقوق والواجبات وترسيخ المساواة بين جميع المواطنين في تلك الحقوق والواجبات دون تمييز، ثم نجد تفاوتاً واسعاً بين "حظ" المواطن القاهري وزميله "السوهاجي" مثلاً من موارد الدولة ورعايتها واهتمامها، هنا يصبح الكلام عن المواطنة من باب النيات الحسنة، بل يجب أن يمتد مفهوم المواطنة ليشمل الجانب الاقتصادي، من حيث المساواة في "إتاحة الفرصة"، ليس المساواة في الدخول أو إثابة العامل بمثل العاطل، بل المساواة في صنع الفرص، وإتاحة الآليات التي تشجع على الحراك الاقتصادي والاجتماعي Social and Economic Mobility، بحيث لا يكون هناك مواطن "سجين" أو "معتقل" أو "محاصر" في "طبقة" اقتصادية أو اجتماعية نتيجة لموقعه الجغرافي، أو لونه أو عقيدته، بل يجب أن تتدخل الدولة بالحوافز الإيجابية التي تشجع التنمية الشاملة، وتسعى لتحقيق تكافؤ الفرص في نصيب كل جزء من أجزاء الوطن، وكل فرد من المواطنين، في تلك التنمية. إن أقوى آليات هذا الحراك المنشود، هو إتاحة واسعة لمستوى مقبول من التعليم والتدريب في كل أرجاء الوطن، وتحفيز الشركات المحلية والعالمية على الاستثمار الصناعي والزراعي والتجاري والسياحي والخدمي في مختلف المناطق، بما قد يتطلب نوعاً من التمييز الإيجابي أحياناً لمناطق محرومة، وهو تمييز مؤقت، ينتهي عندما ينتفي السبب من وجوده، عندما يصيب المنطقة المحرومة حظ عادل من التنمية و"الفرصة" Opportunity.


إن أفضل علاج للاكتئاب القومي الذي ذكرناه، هو إتاحة "فرص" الحراك الاقتصادي والاجتماعي على أوسع الأصعدة، لأنه من الممكن أن يقبل الشخص بالضغوط الاقتصادية والاجتماعية ويتكيف معها لفترة، إذا رأى أمامه الفرصة متاحة لتحسين وضعه، أما إذا شعر المواطن بأنه محاصر في ذلك الركن المضغوط دون أمل في الإفلات، فإنه يصاب بالاحباط والاكتئاب المزمن، أو ينقض بالهجوم لينتقم من ذلك المجتمع الظالم الذي حاصره وسجنه تحت تلك الضغوط التي لا يمكن احتمالها للأبد.



الخلاصة



لقد سقط نصف قرن من عمر الأمة المصرية، وتجمد الزمن عند نقطة معينة، بل إنه في كثير من الأحيان تستيقظ في الصباح وتفتح ما يسمى بالصحف القومية لينتابك شعور بأنك ربما قد طال نومك لما يقرب من ربع قرن، ترى العناوين وينتابك شعور بأنك رأيت نفس العناوين من قبل آلاف المرات في كابوس يمثل الجحيم بعينه. فالبعض يرى أن الجحيم ما هو إلا تعذيب أبدي يتكرر يوماً بعد يوم دون أي أمل في مجيء نهاية له، حتى المؤبد هناك فرصة للعفو والتخلص منه عند انتهاء نصف المدة، ولكن أن تذبل كل فرص التغيير فهذا أمر لا يمكن احتماله، لأنه يعني أن الإنسان يسير في نفق مظلم لا نهاية له، وبالتالي فقد اتخذ الكثيرون القرار بالتوقف عن السير، وهو ما نسميه بالـ apathy لأن كلمة السلبية لا تستطيع التعبير عن تلك الحالة المفزعة من التوقف عن الحياة.


ومع اختلال "منطق الحياة" أو "كتالوج الحياة" في مصر، وتغول الفساد والمحسوبية وتمدد الدولة الموازية على حساب الدولة، وانتفاء الشعور بالمساواة أو العدل أو تكافؤ الفرص، أخذت خيوط الانتماء تتآكل وتهترئ يوماً بعد يوم، حتى جاء الوقت الذي اقتربنا فيه من انفراط عقد المجتمع، ليتبعثر المصريون أفراداً وجماعات تتجمع أو تتنافر لحظياً طبقاً لمصالح عشوائية لا رابط بينها، مع غياب أية آلية ديناميكية تتكفل بالوصول إلى توازن بين مصالح تلك الجماعات وأولئك الأفراد والحفاظ على مثل ذلك التوازن، وهو ما نرى بوادره الآن مع تفشي حالة من "الاحتراب المجتمعي" والعداء بين "المواطن" وبين الدولة الرسمية التي تجسد مفهوم هذا الوطن.


لقد أصبح علينا الآن أن نسارع بعلاج تلك المشكلة الخطيرة، وعلاجها ليس بالسهل أو السريع، ولكنه عملية شاقة ومشوار طويل نعيد فيه ترسيم ثقافتنا القومية والقيم الحاكمة للحياة في مصر، نضع فيه قواعد "كتالوج الحياة" في مصر، من خلال عملية تفاعل وحوار مجتمعي حقيقي نتحاور فيه ونتناقش حول "الأيديولوجية المصرية"، لنعلن أسلوبنا المصري الخالص، الذي نستجيب من خلاله للمعضلة الأساسية التي تواجه كل شعب وأمة: تحد البقاء.

My Page on Facebook

Wael Nawara on Facebook