Monday, March 13, 2023

الانتخاب العكسى: البقاء للأفسد«2» Reverse Selection

 الانتخاب العكسى: البقاء للأفسد«2»

من أرشيف 2010 – نشرت في المصري اليوم  - الإثنين 06-09-2010

مبدأ الانتخاب الطبيعى يقتضى أن يختار المجتمع أصلح عناصره- فى كل منظمة ومحفل ومؤسسة سواء حكومية أم خاصة، تجارية أم صناعية أم خدمية- لتشكل هذه العناصر المتميزة النخبة التى تقود حركة المجتمع فى صراعه وتنافسه الدائم مع الأمم الأخرى لضمان البقاء والازدهار.

أما عندما يختلط العام والخاص، ويتجاهل المجتمع فكرة التغيير والتطور، وتستشرى المحاباة على حساب المصلحة العامة، ويحسب كل مسؤول أن الوزارة أو الكلية أو المؤسسة أو الدولة التى يديرها هى عزبة خاصة، يستحق أن يجلس على سدتها حتى آخر نفس، ولا يكتفى بذلك بل يطمع فى توريثها لأبنائه من بعده، عندها تصبح الكفاءة والموهبة نقمة على أصحابها، ويصبح الهم الأكبر للمسؤولين هو دفن أو تطفيش أصحاب المواهب، ويطرد المجتمع ككل أفضل عناصره لصالح تكريس الواقع ومنع الارتقاء الداخلى للعناصر الأصلح، وتستشرى الضحالة والسطحية والسماجة، واللى ماشى حاله، والنص- نص، واللى مش أوى Mediocrity لتحل محل الموهبة والتميز فى تبوؤ مقاعد النخبة،

ومع منع الموهوبين والمتميزين من الصعود لأعلى لا يصبح أمامهم من سبيل سوى التحرك أفقياً للخروج من المنظومة- بالهجرة مثلاً- والالتحاق بمنظومة أخرى تسمح لهم بالصعود لأعلى، مثل فقاعات الغاز التى تجد طريقها إلى سطح الماء فى النهاية بصرف النظر عن العوائق التى تقف فى طريقها. ومع هجرة النخبة الطبيعية، تنضم لمنظومة مجتمع آخر منافس، فتزداد الهوة النسبية بين المجتمع الطارد والمجتمعات الأخرى.

ومع تمدد مواسير شبكة الفساد وتوصيل الفساد إجبارياً لكل مدينة وقرية ومصلحة ومؤسسة ومنزل، تتطور الأمور- أو تتدهور- ليصبح معيار الانتخاب لأعلى ليس فقط هو الولاء والنص نص أو حتى الضعف، بل أيضاً المشاركة فى الفساد والتواطؤ مع المفسدين والموالسة لهم، ويصر شيوخ المنسر على انتخاب العناصر الفاسدة المتورطة «للركب» فى مجارى الشبكة، حتى يطمئنوا على قدراتها فى التفاسد والمفاسدة والإفساد، مع إمكانية إزاحة تلك العناصر عند اللزوم بإظهار بلاويها المستخبية وإبراز «ملفاتها السوداء المتضخمة»، ويصبح التنافس ليس فى الإبداع أو الإنتاج، بل فى التزوير والنفاق والتزييف والفساد والإفساد والهبر، ويصبح البقاء للأفسد.

يضعف المجتمع ككل، وتنهار قوته التنافسية فى الصراع الدائم مع الأمم الأخرى، وتحل التصفية البشرية مكان التنمية البشرية، ويفقد المجتمع أغلى عناصره، الموهبة الإنسانية الخلاقة التى هى مصدر الإبداع والقيمة المضافة فى أية منظومة فى المجتمع.

ولكن أسوأ ما يصيب المجتمع هو ترسيخ مجموعة من القيم المعكوسة لتحل محل القيم الطبيعية، فالفساد وليس الأمانة يصبح هو مفتاح الترقى، والنفاق والجبن، وليس الصدق والشجاعة، يصبحان السبيل إلى الصعود، والضحالة، وليس العمق والتميز، تصبح هى معيار الاختيار.

فعندما تكون المكافأة على قدر النفاق الإعلامى، فمن الطبيعى أن من يترقى لأعلى المناصب الإعلامية يكون هو أكبر المنافقين، ونظرة واحدة على الصحف «القومية» وأسماء القائمين عليها تصيبك بالذعر، وكذلك عندما يكون الهدف هو تزييف الانتخابات والعملية السياسية ككل لتكريس سيطرة نظام ما على الحكم لأطول فترة ممكنة، فمن الطبيعى أن الذى يصل لأعلى المناصب هو أعتى المجرمين فى التزوير والبلطجة، محاطاً بحاشيته من البصاصين والمتخصصين فى شراء الأصوات والذمم والتلاعب فى العملية السياسية واختراق الجامعات والنقابات والصحف والجمعيات والأحزاب.

ما هو الدرس الذى يعطيه هذا لأفراد المجتمع وللأجيال القادمة؟ أن الكذب والنفاق، والتزوير والتزييف، والاختلاس وسوء استغلال السلطة وهبر أراضى الدولة ومؤسساتها، هى القيم التى يجب أن يتحلى بها الشاب الشاطر الذى يبتغى النجاح، فمع فساد أهداف المجتمع، تفسد عملية الانتخاب الطبيعى لتعكس هذا الفساد، ويظهر الانتخاب العكسى،

ومن هنا يتضح أن الفساد لا يقتصر على الرشوة أو المحسوبية أو غيرها من المظاهر الساذجة، بل إن الفساد يتسع ليضرب جذوره فى أعماق المجتمع ملوثاً ضمير الأمة، ليشوه القيم والسلوكيات والأهداف والمرجعيات، والنفوس والممارسات، ويفسد طبيعة التعاملات ومنطق الأشياء والقوانين التى تحكم نتائج التفاعلات الاجتماعية.

هذا هو منطق الانتخاب العكسى، فبدلاً من أن يسود المجتمع منطق البقاء للأصلح، ينقلب منطق الحياة ليصبح البقاء للأفسد، والصعود والترقى للأفسد، وهكذا. وبالتالى، بدلاً من أن يتطور المجتمع طبقاً للقوانين الطبيعية، يتدهور ويتراجع للوراء فى كل المجالات، ومهما حاول أى شخص أن ينظف شقته من الداخل، فما دامت بسطة المنزل المشتركة تصخب بالزبالة، فلا يمكن الهروب من القذارة والعطانة والمرض والفشل العام.

من هنا نكتشف أن مبدأ الانتخاب ليس مجرد آلية سياسية، يمكن أن نتنازل عنها مجاملة لحاكم أب أو ابن، بل هو مبدأ فرضته قوانين الطبيعة، وعندما نقف فى وجه الطبيعة، ونختار أن تحل المحاباة (المشتقة فساداً من الحب) محل الانتخاب الطبيعى، نضر أنفسنا وأبناءنا وجميع من نحب، لأنه فى ظل وجود صراع وتنافس دائم بين الأمم اقتصادياً وتقنياً وثقافياً وسياسياً، نخوض نحن معركة خاسرة مقدماً، بينما تقودنا أسوأ وأفسد عناصر المجتمع نحو الهزيمة الحتمية، ولا يجب عندها أن نندهش عندما تنهمر علينا الأصفار والكوارث والهزائم وحالات الفشل العام والخاص.

والآن: هل من سبيل للخلاص من هذه اللعنة وكسر هذه الدائرة الحلزونية الهابطة؟

 

https://www.almasryalyoum.com/news/details/13765

No comments:

My Page on Facebook

Wael Nawara on Facebook