Sunday, March 26, 2023

إعلام الريادة بين المبايعة والإشادة Propagandist Media

إخترناك: إعلام الريادة بين المبايعة والإشادة

من أرشيف 2004 -  نشرت في جريدة "المصري اليوم" - أغسطس 2004 

خرج علينا أحد كبار أقطاب الحكومة الجديدة بتصريح مطمئن للغاية، مفاده أن الدولة سوف تستمر في "رعاية" الإعلام، وأن التكهنات الإصلاحية التي توقعت البدء في خصخصة قطاع الإعلام تمهيداً لحل وزارة الإعلام (الإرشاد القومي سابقاً) هي تكهنات خاطئة.

 

وهذا التصريح مطمئن جداً، بالطبع ليس للمواطن المصري المسكين الذي لا يستطيع غالباً مشاهدة المباريات الدولية لفريقه القومي إلا على القنوات الفضائية الأجنبية، ولا يستطيع متابعة أخبار بلده إلا من خلال قنوات "الجعير" الأجنبية أيضاً، لأنها رغم تشنجها تبث الأخبار في حينها، عكس القنوات المصرية التي عليها أن تنتظر التوجيهات، لتحديد ما إذا كانت الأخبار مناسبة للشعب الغرير، أم أنها سوف تفسد أخلاقه وتفتح عينيه على أشياء لا تناسب سنه وهو بالتأكيد في غنى عن معرفتها. على المواطن المصري أن ينتظر خمسة أيام كاملة، ليتابع أحد استجوابات مجلس الشعب، رغم أن مجلس الشعب يبعد عن ماسبيرو بمسافة تقل عن كيلومتر واحد، ولكن عمليات المونتاج والتجميل وشد الجلد، هي عمليات صعبة وتحتاج لعودة الخبراء من الخارج، وكان الله في العون.

 

هذا التصريح لاقى الترحيب الحار، ليس من المواطن المصري المغلوب على أمره، ولكن من القنوات الفضائية الخاصة، العربية والمستعربة بتمويل أمريكي. ويسعدنا أن يهتم المسئول الكبير بطمأنة هذه القنوات الخاصة، وتشجيعها على التوسع في جذب واستقطاب المشاهد المصري والعربي، والانفراد به أمام المرمى في الملعب الإعلامي في كل المجالات، بدءاً بالقطاع الإخباري (الجزيرة وعربية)، مروراً بالقطاع الشبابي (روتانا وأخواتها علاوة على قنوات الرياضة العربية)، وقطاع الدراما (شوتايم وأوربيت وART)، حتى قطاع الأطفال لم يسلم من الغزو الفضائي (كارتون نتورك وقناة ديزني وسبيس تون)، وهذا شيء عظيم ويؤكد قدرة مسئولينا على تحقيق الريادة، فقد حققوا الريادة لتلك القنوات الأجنبية والشقيقة في سنوات قليلة، وهذا إنجاز في حد ذاته يحسب لهم، مما يدل أيضاً على ريادة المصريين في كرم الأخلاق والترحيب بكل وافد شرط أن يكون فضائياً لا أرضياً، ولعل في هذا تأكيد لنظرية التواصل المثمر بين الفراعنة والمخلوقات الفضائية.

 

في ظل "رعاية" الدولة للإعلام المصري، تحققت إنجازات عظيمة وريادة غير مسبوقة، تمثلت في زيادة عدد القنوات المصرية إلى ما يقرب من أربعين قناة خالية من أي محتوى ولا يشاهدها أحد، بعد أن باع التليفزيون كنوزه من أصول الأفلام المصرية القديمة. أربعون قناة تسبح بحمد الحكومة وتشيد بعظمتها في الغداة والعشي، وتدافع عن جميع المسئولين في كل المواقع، وتؤكد لنا أن الشمس ساطعة والجو مشرق في نفس الوقت الذي تجتاح فيه السيول البلاد. وإن ننس فلا ننس مبنى التليفزيون الفخيم المطل على النيل السعيد، وهذا المبنى تقطنه عدة قبائل قوامها حوالي 50 ألف موظف، كل منهم ينتمي لأحد البطون الرئيسية، ولابد للترقي أن يكون الموظف قريب أو نسيب أحد شيوخ القبائل، لتأكيد الجو الأسري، الذي يحفل مع ذلك بالمقالب اللطيفة، والصراعات الأخوية، التي كثيراً ما تنتهي في السجن، عند الخلاف بين الشيوخ على توزيع الغنائم والأسلاب، فيتم القبض على واحد من صبيان المعلمين الكبار قوي ذراً للرماد في العيون. 50 ألف موظف موجودون نظرياً ولكن لا يعلم أحد ماذا يفعلون، في الوقت الذي نجد المحطات الفضائية الجديدة التي تكتسح السماوات والأرض وما بينهما من منازل ومطاعم وفنادق ومقاه، نجد تلك المحطات تُدار بعدة عشرات قليلة من المتخصصين الموهوبين، وكثير من هؤلاء الموهوبين فشل في الالتحاق بقبائل التليفزيون المصري، لأن الموهوب كما هو واضح مما سبق فاشل والعيب فيه أصلاً، لعدم خروجه من البطن المناسبة، أو عدم قدرته على التكيف مع جو الفساد العليل، وعلى المتضرر اللجوء للفضائيات.

 

وعلى سبيل المثال، فقد نجح الإعلام المصري في ظل "رعاية" الدولة في تحقيق سبق فني وتقني وثقافي جليل، وهو تطوير أغاني المبايعة وأناشيد الإشادة "الدائرية" (مثل أغنية "أخترناك")، التي يلتحم أولها بآخرها ويمكن نظرياً أن يتم بثها للأبد ودون توقف. وقد استطاع التليفزيون بالفعل أن يحقق أرقاماً قياسية عندما قام ببث إحدى تلك الأغاني لساعات طويلة متصلة، وتم قطع الإرسال في النهاية لأسباب طبية عندما عجزت المستشفيات العقلية عن استيعاب الأعداد الغفيرة ممن أصيبوا بنوبات الصرع والتخلف العقلي المفاجئ أثناء البث. وهذه الأغنية الأوبرالية الأوركسترالية، يؤديها مئات المغنيين والممثلين والريجسيرات الذين يصطفون على المسرح، لأن عدم المشاركة في الغناء يعد بمثابة الخيانة العظمى، يُحرم معها الممتنع من التعامل مع التليفزيون والإذاعة والمسرح والسينما بل والنوادي الليلية  لسنوات طويلة. وهؤلاء المئات من "الفنانين"، يغني كل منهم نفس المقطع لعدة دقائق، ثم يختار زميل يتسلم الراية من بعده، إلى أن تعود له من جديد بعد عمر طويل ليستكمل الغناء بدوره وهكذا دواليك. وهذه الأغنية تعد من أسلحة الدمار الشامل الاستراتيجية والتكتيكية في نفس الوقت، وعادة ما تطلقها الحكومة علينا في شكل جرعات عشوائية متكررة، فتصيب المشاهد إما بالبله أو الصرع أو الوفاة، حسب سرعة رد فعله وقرب أصابعه من زر الإغلاق في الريموت كونترول، وذلك لأن تغيير المحطة لا يجدي، حيث أن جميع المحطات عادة ما تنضم معاً، لتتحالف ضد المشاهد أثناء البث، لحصاره وتحقيق أكبر خسائر في الأرواح، مساهمة من إعلام الريادة في مكافحة الزيادة السكانية، بعد فشل برامج الريادة ماركة "حسنين ومحمدين" في تنظيم الأسرة.

 

في ظل "رعاية" الدولة للإعلام، تبوأ عديمو الموهبة مقاعد الموهوبين، وطرد الفاشلون ممن ينتمون لأحد بطون قبائل ماسبيرو، طردوا الناجحين ممن لا قريب لهم ولا نسيب، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وكانت النتيجة أن تنامت الأكاذيب لتطغى على الحقائق، واستشرت السخافة والسماجة لتغتال فنون الإعلام الأصيلة، واختلط الإعلام بالإعلان، والحابل بالنابل، وترعرعت المجاملات على حساب الأمانة المهنية، وانتشرت عمليات غسل المخ لتضخم الأمور العادية وتحولها إلى منجزات بلهنية ومعجزات خيالية، بهدف تزييف وترويش الواقع الصفري الأليم، وتكفلت خدع المونتاج بتضليل المشاهد وحجب الحقائق عنه، لأنه قاصر وعديم الأهلية ولا يستطيع تحمل الحقيقة، والحقيقة في النهاية نسبية، ومن لا نسب له يضيع وسط قبائل أدغال ماسبيرو.

 

كل هذه الإنجازات العظيمة هي نتيجة مباشرة "لرعاية" الدولة للإعلام، وهذه "الرعاية" بالطبع ليست مجانية، فنحن نسدد ثمنها من جيوبنا كل يوم، فميزانية الإعلام تستهلك عشرات المليارات، وهي بالمناسبة مليارات سائبة وغير خاضعة لرقابة مجلس الشعب لأنها تمس الأمن القومي. ولا أعلم معنى إقحام الأمن القومي في حماية الفشل القومي في مجال الإعلام، وهو الفشل الذي يتنامى يوماً بعد يوم. هل نعلم أنه لا توجد أية محطة مصرية في قائمة أفضل عشر قنوات عربية، حسب استطلاعات الرأي لاختيار أكثر المحطات العربية مشاهدة - مع الاعتذار لخيبة المونديال؟ وفي نهاية الأمر، ما هو الهدف من هذه "الرعاية"؟ هل تظن الحكومة حقاً أن الشعب المصري "أهبل" و"ريالته على صدره" حتى يصدق الطنطنة الفارغة أو أكاذيب "أبو لمعة" الإعلامية؟ يعني صرف وصرفنا، وقرف واتقرفنا، ورقدنا على ظهورنا كده مستسلمين ومستعدين لتصديق كل ما يقال، ولكن إذا كان المتكلم "لا مؤاخذة"، فالسامع وهو الشعب لا يزال مع الأسف لديه بقية من عقل وذوق، رغم أن الأول في تدهور يشهد عليه تزايد نسب الإصابة بالاكتئاب، والثاني في انحدار يشهد عليه انهيار الذوق العام.

 

حقيقة لا نعلم ما كان يمكن أن يحدث لولا هذه "الرعاية". هل كان يمكن أن يحدث أسوأ مما نحن فيه الآن؟ ألم يشهد المسئول العظيم الغزو الثقافي والإعلامي الشامل الذي جاء كنتيجة مباشرة "لرعاية" الدولة للإعلام؟ بالله عليك، إذا فرضنا أن أحد الأعداء رصد كل الموارد المطلوبة بهدف غزو مصر ثقافياً وإعلامياً، هل كان يمكن أن ينجح في تحقيق ربع الاختراق الناتج عن هذه "الرعاية"؟ إننا مع جزيل شكرنا وكامل تقديرنا لتعب الحكومة معنا و"رعايتها" الشديدة لنا، فإننا نقول لحكومة "الرعاية"، إن رعايتك على عنينا ولكنها لم تعد تلزمنا، وأنه قد حان وقت الراحة، ونتمنى للحكومة نوماً هادئاً وأحلاماً طويلة "دائرية"، على ألا تضيع أموالها – ولن أقول أموالنا- في هذه "الرعاية" التي نرفضها، بل أعلن أننا في حاجة للتخلص من هذه "الرعاية" في أقرب فرصة، قبل أن نجد أنفسنا جميعاً في غرف "الرعاية" المركزة.

 

No comments:

My Page on Facebook

Wael Nawara on Facebook